لم يحمل ملايين المصريين الذين احتشدوا في ميدان التحرير في القاهرة في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير الماضيين صور زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن عندما قادوا احتجاجاً سلمياً أطاح حكم الرئيس السابق حسني مبارك.
كان بن لادن وتنظيمه غائبين في شكل تام عن تحركات غالبية المحتجين في الشارع المصري الذي كان ينادي بتغيير نظام يراه ديكتاتورياً أو فاسداً، أو كلاهما معاً.
لكن نزول مئات الإسلاميين - الذين وُصفوا بأنهم سلفيون - إلى شوارع القاهرة يوم الجمعة الماضي للاحتجاج على قتل أسامة بن لادن، أثار تساؤلات حول ما إذا كان تنظيم القاعدة قد يكون مستفيداً من سقوط نظام الرئيس مبارك.
لا شك أن طرح مثل هذا التساؤل يُعد أمراً مشروعاً. فالسلفيون الذين حملوا صور بن لادن في القاهرة، الأسبوع الماضي، لم يكونوا ليجرؤوا على مثل هذا التصرف لو كان نظام مبارك ما زال قائماً. ولعل تفكيك جهاز مباحث أمن الدولة الذي كان أداة القمع الأساسية في يد النظام السابق، كان أحد الأسباب التي سمحت للسلفيين وغيرهم بالتحرك بمثل هذه الحرية التي لم تكن متخيّلة قبل شهور فقط.
فهل يمكن أن تحاول القاعدة السير على خطى السلفيين والاستفادة من تفكك النظام السابق كي تبني خلاياها في مصر، خصوصاً إذا ما تولى المصري الدكتور أيمن الظواهري قيادة التنظيم خلفاً لبن لادن؟
قد يكون هذا ما ستحاول القاعدة القيام به فعلا. لكن واقع الأمر يوحي بأنها لن تستفيد كثيراً حتى ولو حاولت.
الحكم الديموقراطي يهدد القاعدة العامل الأول والأكثر أهمية الذي يشير إلى أن القاعدة لن تستفيد كثيراً من الأوضاع الجديدة في مصر هو مناخ الحرية والديموقراطية الذي يعم البلاد حالياً، بعد سنوات طويلة من القمع والاستبداد.
فالحكومة الجديدة التي شكّلها المجلس العسكري الحاكم تبدو عازمة على انتهاج سياسة ديموقراطية تعددية تسمح لمختلف أطياف المجتمع بالتعبير عن آرائه من خلال أحزاب سياسية تتنافس على كسب أصوات المواطنين.
وستكون الانتخابات المقررة في الخريف المقبل (النيابية ثم الرئاسية) محكاً لترجمة التعهدات الحكومية بإجراء انتخابات حرة وشفافة ونزيهة، وهو وصف ما كان يمكن أن يُطلق على الانتخابات المختلفة التي جرت خلال السنوات الطويلة من حكم مبارك والتي كانت تُنتج دائماً فوزاً ساحقاً للحزب الوطني الحاكم سابقاً والذي تم حله اليوم.
سياسة الانفتاح هذه التي ينتهجها الحكم المصري الجديد لابد وأن تنعكس على أطياف المجتمع التي لن تجد مبرراً ساعتئذ يمنعها من الانخراط في الحياة السياسية كي تُعبّر عن آرائها وتحاول تحقيق أهدافها ومبادئها من خلال الممارسات السلمية. فنجاح هذه الأحزاب أو فشلها يُقاس بمدى نجاحها أو فشلها في كسب غالبية المقترعين المصريين، كما في حال أي ديموقراطيات حقيقية في العالم.
وتحرم مثل هذه السياسة أي طرف، سواء كان تنظيم القاعدة أو غيره من الجماعات التي تستخدم العنف، حق اللجوء إلى وسائل غير سلمية لتحقيق أهدافه. ففي مثل هذه الحالة، سيجد أي تنظيم مسلح صعوبة كبيرة في تجنيد أعضاء لخلاياه، كون غالبية المصريين يرون بأم أعينهم أن النظام قد فتح أمامهم حرية العمل السياسي، وبالتالي لم يعد من مبرر أمامهم لحمل السلاح ضده.
الحركات الإسلامية الرئيسية في مصر في خلاف مع القاعدة وثمة عامل ثان ينفي صحة أن تكون القاعدة هي المستفيد من ثورة مصر: تنامي التيار الإسلامي. قد يبدو ذلك، للوهلة الأولى، مناقضاً لهذه الخلاصة، إذ يوحي وكأن القاعدة هي المستفيد فعلاً من الثورة. لكن نظرة أكثر تمعناً قد توضح أن النتيجة معاكسة لذلك.
فالتيار الإسلامي الأكثر استفادة من سقوط مبارك هو التيار الذي تمثّله جماعة الإخوان المسلمين. تعرّضت هذه الجماعة للقمع منذ عقود مُنعت خلالها من حق العمل السياسي الشرعي.
ربما أخطأت جماعة الإخوان قبل عقود، بعد كشف وجود جناح عسكري سري لها (يدعى التنظيم الخاص) تورط بعض أعضائه في أعمال عنف واغتيالات. لكن هذه الجماعة انتهجت بعد ذلك سياسة واضحة، على الأقل منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي. إذ أنها نأت بنفسها عن استخدام العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، ورفضت حتى الانجرار وراء جماعات "جهادية" كانت تُصر على تغيير النظام بالقوة، كما حصل عندما اغتالت جماعتا الجهاد والجماعة الاسلامية الرئيس السادات في العام 1981 وعندما انخرطت هاتان الجماعتان في حملة تفجيرات واغتيالات واسعة النطاق في تسعينيات القرن الماضي.
وقد أدى رفض الإخوان السير في الحرب التي خاضها "الجهاديون" ضد الحكم المصري في القرن الماضي، إلى تعرضهم لحملة انتقاد شديدة من الجهاديين أنفسهم. وكان الدكتور أيمن الظواهري، زعيم جماعة الجهاد، أحد أكثر الجهاديين الذين لم تعجبهم مواقف الإخوان، إذ أصدر ضدهم في أواخر الثمانينيات ثم في التسعينيات كتابه المعروف "الحصاد المر" معدداً فيه مآخذه على سياساتهم.
ولذلك، فإن السماح اليوم لـ (الإخوان) بتشكيل حزب سياسي شرعي يخوضون به معترك الانتخابات لا يعني بالضرورة أن تنظيم القاعدة سيستفيد من وصولهم إلى قبة البرلمان. فالإخوان ليسوا بالتأكيد جزءاً من القاعدة، حتى ولو التقت أحياناً بعض مواقفهم مع مواقف هذا التنظيم.
كما أن ثمة عاملاً ثالثاً يمكن أن يشير إلى أن القاعدة لن تستفيد كثيراً حتى من الموالين للتيارات الجهادية المصرية التي يُفترض أن يكونوا أقرب الناس إليها. فالجماعة الإسلامية، أكبر الجماعات التي توصف بالجهادية، أعلنت منذ العام 1997 وقفاً لأعمال العنف توّجته بـ "مراجعات" شاملة تخلّت فيها عن سياسة تكفير النظام المصري ونعته بالردة وتبرير القيام على الحاكم بالسلاح بدعوى السعي إلى تحكيم الشريعة.
ولم تكتف الجماعة الإسلامية بذلك بل دأب قادتها ومنظروها الشرعيون على انتقاد تصرفات القاعدة وفروعها، بدءاً من هجمات 11 أيلول/سبتمبر وحتى اليوم.
ولم يتوقف الأمر عند الجماعة الإسلامية، بل امتد إلى الدكتور فضل (سيد إمام) الذي كان أميراً لجماعة الجهاد قبل الدكتور الظواهري. وأصدر الدكتور فضل دراسات فقهية (مثل وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم) هاجم فيها بعنف تنظيم القاعدة وقادته، علماً أن هذا التنظيم كان يعتبره مرجعاً أساسياً من مراجعه ويتولى تدريس كتبه في معسكرات التدريب في أفغانستان.
ولذلك فإن من غير المتوقع أن يتمكن تنظيم القاعدة من استقطاب مجندين كثر من أتباع الجماعة الإسلامية والدكتور فضل، نتيجة الخلافات الواضحة في المناهج، بين طرف صار ينأى بنفسه عن استخدام العنف وطرف لا يعتبر أن أهدافه يمكن أن تتحقق سوى بالعنف.
هل هذا يعني أن الصورة حقاً وردية بهذا الشكل بحيث لن يتمكن تنظيم القاعدة من إيجاد موطئ قدم له في مصر، "أرض الكنانة"؟
ستحاول القاعدة بلا شك بناء خلاياها، ليس في مصر فقط بل في أي مكان يمكنها ذلك. لكن التغييرات الديموقراطية التي تمر بها مصر ليست بالطبع في مصلحة القاعدة كونها تحرمها من أي مبرر يمكن أن تلجأ إليه لتجنيد أتباع من بين المستائين من ديكتاتورية النظام، كما كان يمكن أن يحصل في عهد الرئيس المخلوع مبارك.
فهل يستطيع العهد الجديد من خلال الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان أن يحقق النتيجة ذاتها التي حققها مبارك من خلال أجهزته الأمنية القمعية في مجال مكافحة الإرهاب؟ الأيام وحدها ستأتي بالجواب على مثل هذا السؤال.
تحياااتي لمي دمر حياتي