هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 تفسير القران الكريم كاملا

اذهب الى الأسفل 
+2
مجنونة اروجه
بنت جدة
6 مشترك
انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3, 4, 5, 6, 7, 8, 9, 10  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:29 pm

1- تفسيرسورة الفاتحة عدد آياتها 7
وهي مكية

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }

{ بِسْمِ اللَّهِ } أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى, لأن لفظ { اسم } مفرد مضاف, فيعم جميع الأسماء [الحسنى]. { اللَّهِ } هو المألوه المعبود, المستحق لإفراده بالعبادة, لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء, وعمت كل حي, وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة, ومن عداهم فلهم نصيب منها.

واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها, الإيمان بأسماء الله وصفاته, وأحكام الصفات.

فيؤمنون مثلا, بأنه رحمن رحيم, ذو الرحمة التي اتصف بها, المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها, أثر من آثار رحمته, وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم, يعلم [به] كل شيء, قدير, ذو قدرة يقدر على كل شيء.

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [هو] الثناء على الله بصفات الكمال, وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل, فله الحمد الكامل, بجميع الوجوه. { رَبِّ الْعَالَمِينَ } الرب, هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم, وإعداده لهم الآلات, وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة, التي لو فقدوها, لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة, فمنه تعالى.

وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة: هي خلقه للمخلوقين, ورزقهم, وهدايتهم لما فيه مصالحهم, التي فيها بقاؤهم في الدنيا.

والخاصة: تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم له, ويكمله لهم, ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه, وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.

فدل قوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } على انفراده بالخلق والتدبير, والنعم, وكمال غناه, وتمام فقر العالمين إليه, بكل وجه واعتبار.

{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات, وأضاف الملك ليوم الدين, وهو يوم القيامة, يوم يدان الناس فيه بأعمالهم, خيرها وشرها, لأن في ذلك اليوم, يظهر للخلق تمام الظهور, كمال ملكه وعدله وحكمته, وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم, الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.

كلهم مذعنون لعظمته, خاضعون لعزته, منتظرون لمجازاته, راجون ثوابه, خائفون من عقابه, فلذلك خصه بالذكر, وإلا, فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.

وقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي: نخصك وحدك بالعبادة

والاستعانة, لأن تقديم المعمول يفيد الحصر, وهو إثبات الحكم للمذكور, ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك, ولا نعبد غيرك, ونستعين بك, ولا نستعين بغيرك.

وقدم العبادة على الاستعانة, من باب تقديم العام على الخاص, واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.

و { العبادة } اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة. و { الاستعانة } هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع, ودفع المضار, مع الثقة به في تحصيل ذلك.

والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية, والنجاة من جميع الشرور, فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة, إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة, وذكر { الاستعانة } بعد { العبادة } مع دخولها فيها, لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله, لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر, واجتناب النواهي.

ثم قال تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: دلنا وأرشدنا, ووفقنا للصراط المستقيم, وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله, وإلى جنته, وهو معرفة الحق والعمل به, فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام, وترك ما سواه من الأديان, والهداية في الصراط, تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته, لضرورته إلى ذلك.

وهذا الصراط المستقيم هو: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. { غَيْرِ } صراط { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط { الضَّالِّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال, كالنصارى ونحوهم.

فهذه السورة على إيجازها, قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن, فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: { رَبِّ الْعَالَمِينَ }

وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة, يؤخذ من لفظ: { اللَّهِ } ومن قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتوحيد الأسماء والصفات, وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى, التي أثبتها لنفسه, وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه, وقد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.

وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأن الجزاء يكون بالعدل, لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.

وتضمنت إثبات القدر, وأن العبد فاعل حقيقة, خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.

وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى, عبادة واستعانة في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالحمد لله رب العالمين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:31 pm

- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 1-25 )
وهي مدنية

{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

تقدم الكلام على البسملة. وأما الحروف المقطعة في أوائل السور, فالأسلم فيها, السكوت عن التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي], مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.

وقوله { ذَلِكَ الْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة, المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم,

والحق المبين. فـ { لَا رَيْبَ فِيهِ } ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه, يستلزم ضده, إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب. وهذه قاعدة مفيدة, أن النفي المقصود به المدح, لا بد أن يكون متضمنا لضدة, وهو الكمال, لأن النفي عدم, والعدم المحض, لا مدح فيه.

فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة. وقال { هُدًى } وحذف المعمول, فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية, ولا للشيء الفلاني, لإرادة العموم, وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية, ومبين للحق من الباطل, والصحيح من الضعيف, ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم, في دنياهم وأخراهم.

وقال في موضع آخر: { هُدًى لِلنَّاسِ } فعمم. وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق.فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا. ولم يقبلوا هدى الله, فقامت عليهم به الحجة, ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر, لحصول الهداية, وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه, بامتثال أوامره, واجتناب النواهي, فاهتدوا به, وانتفعوا غاية الانتفاع. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية, والآيات الكونية.

ولأن الهداية نوعان: هداية البيان, وهداية التوفيق. فالمتقون حصلت لهم الهدايتان, وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق. وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها, ليست هداية حقيقية [تامة].

ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة, والأعمال الظاهرة, لتضمن التقوى لذلك فقال: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل, المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس, فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب, الذي لم نره ولم نشاهده, وإنما نؤمن به, لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر, لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به, أو أخبر به رسوله, سواء شاهده, أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله, أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية, لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم, ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.

ويدخل في الإيمان بالغيب, [الإيمان بـ] بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة, وأحوال الآخرة, وحقائق أوصاف الله وكيفيتها, [وما أخبرت به الرسل من ذلك] فيؤمنون بصفات الله ووجودها, ويتيقنونها, وإن لم يفهموا كيفيتها.

ثم قال: { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } لم يقل: يفعلون الصلاة, أو يأتون بالصلاة, لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها. وإقامتها باطنا بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وهي التي يترتب عليها الثواب. فلا ثواب للإنسان من صلاته, إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.

ثم قال: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة, والنفقة على الزوجات والأقارب, والمماليك ونحو ذلك. والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير. ولم يذكر المنفق عليهم, لكثرة أسبابه وتنوع أهله, ولأن النفقة من حيث هي, قربة إلى الله، وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض, لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم, غير ضار لهم ولا مثقل, بل ينتفعون هم بإنفاقه, وينتفع به إخوانهم.

وفي قوله: { رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم, ليست حاصلة بقوتكم وملككم, وإنما هي رزق الله الذي خولكم, وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده, فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم, وواسوا إخوانكم المعدمين.

وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن, لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود, وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه, فلا إخلاص ولا إحسان.

ثم قال: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن والسنة، قال تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول, ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه, فيؤمنون ببعضه, ولا يؤمنون ببعضه, إما بجحده أو تأويله, على غير مراد الله ورسوله, كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة, الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم, بما حاصله عدم التصديق بمعناها, وإن صدقوا بلفظها, فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا.

وقوله: { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يشمل الإيمان بالكتب السابقة، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه, خصوصا التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.

ثم قال: { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت، وخصه [بالذكر] بعد العموم, لأن الإيمان باليوم الآخر, أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك, الموجب للعمل.

{ أُولَئِكَ } أي: الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي: على هدى عظيم, لأن التنكير للتعظيم، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة، وهل الهداية [الحقيقية] إلا هدايتهم، وما سواها [مما خالفها]، فهو ضلالة.

وأتى بـ " على " في هذا الموضع, الدالة على الاستعلاء, وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في قوله: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى, مرتفع به, وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر.

ثم قال: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } والفلاح [هو] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم, وما عدا تلك السبيل, فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك.



{ 6 - 7 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا, ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم، المعاندين للرسول فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا, أي: اتصفوا بالكفر, وانصبغوا به, وصار وصفا لهم لازما, لا يردعهم عنه رادع, ولا ينجع فيهم وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم, فسواء عليهم أأنذرتهم, أم لم تنذرهم لا يؤمنون، وحقيقة الكفر: هو الجحود لما جاء به الرسول, أو جحد بعضه، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة, وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم, وأنك لا تأس عليهم, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.

ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان, ولا ينفذ فيها، فلا يعون ما ينفعهم, ولا يسمعون ما يفيدهم.

{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي: غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم, وهذه طرق العلم والخير, قد سدت عليهم, فلا مطمع فيهم, ولا خير يرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك, وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق, كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا عقاب عاجل.

ثم ذكر العقاب الآجل، فقال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار, وسخط الجبار المستمر الدائم.

ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال:

{ 8 - 10 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }

واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي, والنفاق العملي، كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " آية المنافق ثلات: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان " وفي رواية: " وإذا خاصم فجر "

وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام, فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [من مكة] إلى المدينة, وبعد أن هاجر, فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم, فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة, ولتحقن دماؤهم, وتسلم أموالهم, فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم, وفي الحقيقة ليسوا منهم.

فمن لطف الله بالمؤمنين, أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها, لئلا يغتر بهم المؤمنون, ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.

والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا, ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع, إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم, لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم, وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون, لا يضرهم كيدهم شيئا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان, فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم, وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا, والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.

ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم, والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.

وقوله: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة, ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا, ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها, من مرض الشهوات ، كما قال تعالى: { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين, فحصل له اليقين والإيمان, والصبر عن كل معصية, فرفل في أثواب العافية.

وفي قوله عن المنافقين: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين, وأنه بسبب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى: { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }


{ 11 - 12 } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }

أي: إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق, وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية, مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة, وأرجى لرجوعه.

ولما كان في قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } حصر للإصلاح في جانبهم - وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قلب الله عليهم دعواهم بقوله: { ألا إنهم هم المفسدون } فإنه لا أعظم فسادا ممن كفر بآيات الله, وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن لا يعلمون علما ينفعهم, وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل بالمعاصي في الأرض إفسادا, لأنه يتضمن فساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار, والنبات, بما يحصل فيها من الآفات بسبب المعاصي، ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق, وأسكنهم في الأرض, وأدر لهم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته [وعبادته]، فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد فيها, وإخرابا لها عما خلقت له.


{ 13 } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ }

أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس, أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان, قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم, بزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان, وترك الأوطان, ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك, فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى.

فرد الله ذلك عليهم, وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة, لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه, وسعيه فيما يضرها, وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحجا, معرفة الإنسان بمصالح نفسه, والسعي فيما ينفعه, و[في] دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على [الصحابة و]المؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة.


ثم قال تعالى: { 14 - 15 } { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، و[ذلك] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين, أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم, فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي: رؤسائهم وكبرائهم في الشر - قالوا: إنا معكم في الحقيقة, وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم, أنا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة, ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

قال تعالى: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة, حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية.

قوله: { وَيَمُدُّهُمْ } أي: يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي: فجورهم وكفرهم، { يَعْمَهُونَ } أي: حائرون مترددون, وهذا من استهزائه تعالى بهم.

ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم:


{ 16 } { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }

أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات { الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } أي: رغبوا في الضلالة, رغبة المشتري بالسلعة, التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة. وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم

وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور عن عاليها ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة. { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }

وقوله: { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } تحقيق لضلالهم, وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء, فهذه أوصافهم القبيحة.

ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف، فقال:

{ 17 - 20 } { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار [وبئس القرار].

فلهذا قال تعالى [عنهم]: { صُمٌّ } أي: عن سماع الخير، { بُكْمٌ } [أي]: عن النطق به، { عُمْيٌ } عن رؤية الحق، { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.

ثم قال تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، { وَرَعْدٌ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، { وَبَرْقٌ } وهو الضوء [اللامع] المشاهد مع السحاب.

{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } البرق في تلك الظلمات { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي: وقفوا.

فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.

ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي: الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.

وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ 21 - 22 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

هذا أمر عام لكل الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.

{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون.

{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.

وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.

وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه. ثم قال تعالى:

{ 23 - 24 } { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم.

وفي قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.

وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق.

وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال، فقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }

وفي قوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.

وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها.

{ 25 } { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }



لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: { وَبَشِّرِ } أي: [يا أيها الرسول ومن قام مقامه] { الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.

ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.

فبشرهم { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها.

{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي: أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.

{ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.

وقوله: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قيل: متشابها في الاسم, مختلف الطعوم وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا الصحيح

ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } فلم يقل " مطهرة من العيب الفلاني " ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.

ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّرُ به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب.

وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها], فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:31 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 26-57 )
وهي مدنية

{ 26 - 27 } { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } أي: أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ولهذا قال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها، ويتفكرون فيها.

فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة.

{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.

ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.

والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الآية].

ثم وصف الفاسقين فقال: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.

{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها.

فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.

فـ { فَأُولَئِكَ } أي: من هذه صفته { هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [كان] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.


{ 28 } ثم قال تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.

{ 29 } { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي: خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.

وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة, لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث, فإن [تحريمها أيضا] يؤخذ من فحوى الآية, ومعرفة المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا.

وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت بـ " على " كما في قوله تعالى: { ثم استوى على العرش } { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت بـ " إلى " كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها, وأتقنها, { وهو بكل شيء عليم } فـ { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى.

وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.

{ 30 - 34 } { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }

هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض.

فقالت الملائكة عليهم السلام: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [و]هذا تخصيص بعد تعميم, لبيان [شدة] مفسدة القتل، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك, فنزهوا الباري عن ذلك, وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، { وَنُقَدِّسُ لَكَ } يحتمل أن معناها: ونقدسك, فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة, كمحبة الله وخشيته وتعظيمه, ونطهرها من الأخلاق الرذيلة.

قال الله تعالى للملائكة: { إِنِّي أَعْلَمُ } من هذا الخليفة { مَا لَا تَعْلَمُونَ } ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك, إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياته للخلق, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره, وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوه من وليه, وحزبه من حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حكم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك.

ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام, فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض, أراد الله تعالى, أن يبين لهم من فضل آدم, ما يعرفون به فضله, وكمال حكمة الله وعلمه فـ { عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } أي: أسماء الأشياء, وما هو مسمى بها، فعلمه الاسم والمسمى, أي: الألفاظ والمعاني, حتى المكبر من الأسماء كالقصعة، والمصغر كالقصيعة.

{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ } أي: عرض المسميات { عَلَى الْمَلَائِكَةِ } امتحانا لهم, هل يعرفونها أم لا؟.

{ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم وظنكم, أنكم أفضل من هذا الخليفة.

{ قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك, ومخالفة أمرك. { لَا عِلْمَ لَنَا } بوجه من الوجوه { إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } إياه, فضلا منك وجودا، { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } العليم الذي أحاط علما بكل شيء, فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق, ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة: ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به، فأقروا, واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.

فحينئذ قال الله: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة; فعجزوا عنها، { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة، { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهو ما غاب عنا; فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى، { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } أي: تظهرون { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }

ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية لله تعالى، فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود، { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم، قال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وهذا الإباء منه والاستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره.

وفي هذه الآيات من العبر والآيات; إثبات الكلام لله تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالوجب عليه; التسليم; واتهام عقله; والإقرار لله بالحكمة، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم على ما لم يعلموه.

وفيه فضيلة العلم من وجوه:

منها: أن الله تعرف لملائكته; بعلمه وحكمته ، ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم; وأنه أفضل صفة تكون في العبد، ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم; إكراما له; لما بان فضل علمه، ومنها: أن الامتحان للغير; إذا عجزوا عما امتحنوا به; ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو أكمل مما عرفه ابتداء، ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن; وبيان فضل آدم; وأفضال الله عليه; وعداوة إبليس له; إلى غير ذلك من العبر.

{ 35 - 36 } { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }

لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والأكل منها رغدا; أي: واسعا هنيئا، { حَيْثُ شِئْتُمَا } أي: من أصناف الثمار والفواكه; وقال الله له: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى }

{ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } نوع من أنواع شجر الجنة; الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء [أو لحكمة غير معلومة لنا] { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } دل على أن النهي للتحريم; لأنه رتب عليه الظلم.

فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه; حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه. { وَقَاسَمَهُمَا } بالله { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فاغترا به وأطاعاه; فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد; وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.

{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: آدم وذريته; أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو; يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق; وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا, تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }

ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال: { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي: مسكن وقرار، { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } انقضاء آجالكم, ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها, وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة, مؤقتة عارضة, ليست مسكنا حقيقيا, وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار, ولا تعمر للاستقرار.

{ 37 } { فَتَلَقَّى آدَمُ }

{ فَتَلَقَّى آدَمُ } أي: تلقف وتلقن, وألهمه الله { مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } وهي قوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } الآية، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته { فَتَابَ } الله { عَلَيْهِ } ورحمه { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } لمن تاب إليه وأناب.

وتوبته نوعان: توفيقه أولا, ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا.

{ الرَّحِيمِ } بعباده, ومن رحمته بهم, أن وفقهم للتوبة, وعفا عنهم وصفح.

{ 38 - 39 } { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

كرر الإهباط, ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } أي: أيَّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين- هدى, أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني, ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي، { فمن تبع هداي } منكم, بأن آمن برسلي وكتبي, واهتدى بهم, وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب, والامتثال للأمر والاجتناب للنهي، { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

وفي الآية الأخرى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }

فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء:

نفي الخوف والحزن والفرق بينهما, أن المكروه إن كان قد مضى, أحدث الحزن, وإن كان منتظرا, أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا, حصل ضدهما, وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه, حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه, من الخوف, والحزن, والضلال, والشقاء، فحصل له المرغوب, واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه, فكفر به, وكذب بآياته.

فـ { أولئك أصحاب النار } أي: الملازمون لها, ملازمة الصاحب لصاحبه, والغريم لغريمه، { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون.

وفي هذه الآيات وما أشبهها, انقسام الخلق من الجن والإنس, إلى أهل السعادة, وأهل الشقاوة, وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب, كما أنهم مثلهم, في الأمر والنهي.

ثم شرع تعالى يذكِّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال:

{ 40 - 43 } { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ }

{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } المراد بإسرائيل: يعقوب عليه السلام، والخطاب مع فرق بني إسرائيل, الذين بالمدينة وما حولها, ويدخل فيهم من أتى من بعدهم, فأمرهم بأمر عام، فقال: { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا, وباللسان ثناء, وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه.

{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } وهو ما عهده إليهم من الإيمان به, وبرسله وإقامة شرعه.

{ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } وهو المجازاة على ذلك.

والمراد بذلك: ما ذكره الله في قوله: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ [وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي] } إلى قوله: { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }

ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده, وهو الرهبة منه تعالى, وخشيته وحده, فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه.

ثم أمرهم بالأمر الخاص, الذي لا يتم إيمانهم, ولا يصح إلا به فقال: { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ } وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالإيمان به, واتباعه, ويستلزم ذلك, الإيمان بمن أنزل عليه، وذكر الداعي لإيمانهم به، فقال: { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } أي: موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب, غير مخالف لها; فلا مانع لكم من الإيمان به, لأنه جاء بما جاءت به المرسلون, فأنتم أولى من آمن به وصدق به, لكونكم أهل الكتب والعلم.

وأيضا فإن في قوله: { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به, عاد ذلك عليكم, بتكذيب ما معكم, لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم.

وأيضا, فإن في الكتب التي بأيدكم, صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به, كذبتم ببعض ما أنزل إليكم, ومن كذب ببعض ما أنزل إليه, فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسول, فقد كذب الرسل جميعهم.

فلما أمرهم بالإيمان به, نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال: { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي: بالرسول والقرآن.

وفي قوله: { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أبلغ من قوله: { ولا تكفروا به } لأنهم إذا كانوا أول كافر به, كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به, عكس ما ينبغي منهم, وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم.

ثم ذكر المانع لهم من الإيمان, وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية، فقال: { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل, التي يتوهمون انقطاعها, إن آمنوا بالله ورسوله, فاشتروها بآيات الله واستحبوها, وآثروها.

{ وَإِيَّايَ } أي: لا غيري { فَاتَّقُونِ } فإنكم إذا اتقيتم الله وحده, أوجبت لكم تقواه, تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل, فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.

ثم قال: { وَلَا تَلْبِسُوا } أي: تخلطوا { الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } فنهاهم عن شيئين, عن خلط الحق بالباطل, وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم, تمييز الحق, وإظهار الحق, ليهتدي بذلك المهتدون, ويرجع الضالون, وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته, ليميز الحق من الباطل, ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم, فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم.

ومن لبس الحق بالباطل, فلم يميز هذا من هذا, مع علمه بذلك, وكتم الحق الذي يعلمه, وأمر بإظهاره, فهو من دعاة جهنم, لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم, فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.

ثم قال: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي: ظاهرا وباطنا { وَآتُوا الزَّكَاةَ } مستحقيها، { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي: صلوا مع المصلين، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله, فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة, وبين الإخلاص للمعبود, والإحسان إلى عبيده، وبين العبادات القلبية البدنية والمالية.

وقوله: { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي: صلوا مع المصلين, ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.

{ 44 } { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ }

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أي: بالإيمان والخير { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال: { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } وأسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير, وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به, وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله, أو نهاه عن الشر فلم يتركه, دل على عدم عقله وجهله, خصوصا إذا كان عالما بذلك, قد قامت عليه الحجة.

وهذه الآية, وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل, فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه, وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما, لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين, والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر, فليس في رتبة الأول, وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.

{ 45 - 48 } { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }

أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها, والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور, ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان, وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور { وَإِنَّهَا } أي: الصلاة { لَكَبِيرَةٌ } أي: شاقة { إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده يوجب له فعلها, منشرحا صدره لترقبه للثواب, وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك, فإنه لا داعي له يدعوه إليها, وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه.

والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته, وسكونه لله تعالى, وانكساره بين يديه, ذلا وافتقارا, وإيمانا به وبلقائه.

ولهذا قال: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي: يستيقنون { أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } فيجازيهم بأعمالهم { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات, ونفس عنهم الكربات, وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه, كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.

ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته, وعظا لهم, وتحذيرا وحثا.

وخوفهم بيوم القيامة الذي { لَا تَجْزِي } فيه، أي: لا تغني { نَفْسٌ } ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين { عَنْ نَفْسٍ } ولو كانت من العشيرة الأقربين { شَيْئًا } لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.

{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا } أي: النفس, شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له, ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه، وكان على السبيل والسنة، { وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي: فداء { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب } ولا يقبل منهم ذلك { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي: يدفع عنهم المكروه، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه، فقوله: { لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } هذا في تحصيل المنافع، { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } هذا في دفع المضار, فهذا النفي للأمر المستقل به النافع.

{ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض, كالعدل, أو بغيره, كالشفاعة، فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين, لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع, وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع, ويدفع المضار, فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته.

{ 49 - 57 } { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } أي: من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ذلك { يَسُومُونَكُمْ } أي: يولونهم ويستعملونهم، { سُوءَ الْعَذَابِ } أي: أشده بأن كانوا { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } خشية نموكم، { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } أي: فلا يقتلونهن، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة، فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم.

{ وَفِي ذَلِكم } أي: الإنجاء { بَلَاءٌ } أي: إحسان { مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.

ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده, أي: ذهابه.

{ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } عالمون بظلمكم, قد قامت عليكم الحجة, فهو أعظم جرما وأكبر إثما.

ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا الله عنكم بسبب ذلك { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله.

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } وهذا غاية الظلم والجراءة على الله وعلى رسوله، { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } إما الموت أو الغشية العظيمة، { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وقوع ذلك, كل ينظر إلى صاحبه، { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق، فقال: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك.

{ وَالسَّلْوَى } طائر صغير يقال له السماني، طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.

{ وَمَا ظَلَمُونَا } يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات الطائعين، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فيعود ضرره عليهم.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:32 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 58-78 )
وهي مدنية

{ 58 - 59 } { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه, فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو دخول الباب { سجدا } أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا: { حِطَّةٌ } أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.

{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } بسؤالكم المغفرة، { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } بأعمالهم, أي: جزاء عاجل وآجلا.

{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } منهم, ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا { قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة، استهانة بأمر الله, واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى، ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم, ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم، قال: { فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } منهم { رِجْزًا } أي: عذابا { مِنَ السَّمَاءِ } بسبب فسقهم وبغيهم.

{ 60 } { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

استسقى, أي: طلب لهم ماء يشربون منه.

{ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ } إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما اسم جنس، { فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة، { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } منهم { مَشْرَبَهُمْ } أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال: { كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ } أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، { وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ } أي: تخربوا على وجه الإفساد.

{ 61 } { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }

أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها، { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } أي: جنس من الطعام, وإن كان كما تقدم أنواعا, لكنها لا تتغير، { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، { وَقِثَّائِهَا } وهو الخيار { وَفُومِهَا } أي: ثومها، والعدس والبصل معروف، قال لهم موسي { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وهو الأطعمة المذكورة، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى, فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم, أي مصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم, فهو خير الأطعمة وأشرفها, فكيف تطلبون به بدلا؟

ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه, جازاهم من جنس عملهم فقال: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } التي تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَالْمَسْكَنَةُ } بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم عزيزة, ولا لهم همم عالية, بل أنفسهم أنفس مهينة, وهممهم أردأ الهمم، { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا, إلا أن رجعوا بسخطه عليهم, فبئست الغنيمة غنيمتهم, وبئست الحالة حالتهم.

{ ذَلِكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالات على الحق الموضحة لهم, فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم, وبما كانوا { يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }

وقوله: { بِغَيْرِ الْحَقِّ } زيادة شناعة, وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق, لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم.

{ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } بأن ارتكبوا معاصي الله { وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } على عباد الله, فإن المعاصي يجر بعضها بعضا، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير, ثم ينشأ عنه الذنب الكبير, ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك, فنسأل الله العافية من كل بلاء.

واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن, وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم, ونسبت لهم لفوائد عديدة، منها: أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم, ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم, ما يبين به لكل أحد [منهم] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق, ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين؟".

ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم, نعمة واصلة إلى المتأخرين, والنعمة على الآباء, نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها, لأنها نعم تشملهم وتعمهم.

ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم, مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها, حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد, وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع.

لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع, وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع.

ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها, والراضي بالمعصية شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله.

{62 } ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى, والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن.

والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام, فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم, لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها, ومَنْ رحمته وسعت كل شيء.

وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها, ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين.

ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم:

{ 63-64 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

أي: واذكروا { إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم, برفع الطور فوقهم وقيل لهم: { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ } من التوراة { بِقُوَّةٍ } أي: بجد واجتهاد, وصبر على أوامر الله، { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } أي: ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } عذاب الله وسخطه, أو لتكونوا من أهل التقوى.

فبعد هذا التأكيد البليغ { تَوَلَّيْتُمْ } وأعرضتم, وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات، ولكن { لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

{ 65-66 } { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }

أي: ولقد تقرر عندكم حالة { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } الآيات.

فأوجب لهم هذا الذنب العظيم, أن غضب الله عليهم وجعلهم { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } حقيرين ذليلين.

وجعل الله هذه العقوبة { نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } أي: لمن حضرها من الأمم, وبلغه خبرها, ممن هو في وقتهم. { وَمَا خَلْفَهَا } أي: من بعدهم, فتقوم على العباد حجة الله, وليرتدعوا عن معاصيه, ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات.

{ 67 - 74 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا, وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا: { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } فقال نبي الله: { أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل, استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه, والرحمة لعباده. فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق فقالوا: { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ }

أي: ما سنها؟ { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ } أي: كبيرة { وَلَا بِكْرٌ } أي: صغيرة { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } واتركوا التشديد والتعنت.

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } أي: شديد { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } من حسنها.

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } فلم نهتد إلى ما تريد { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }

{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ } أي: مذللة بالعمل، { تُثِيرُ الْأَرْضَ } بالحراثة { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي: ليست بساقية، { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب أو من العمل { لَا شِيَةَ فِيهَا } أي: لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم.

{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي: بالبيان الواضح، وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة، فلو أنهم اعترضوا أي: بقرة لحصل المقصود, ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم, ولو لم يقولوا " إن شاء الله " لم يهتدوا أيضا إليها، { فَذَبَحُوهَا } أي: البقرة التي وصفت بتلك الصفات، { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } بسبب التعنت الذي جرى منهم.

فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي: بعضو منها, إما معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى، { لعلكم تعقلون } فتنزجرون عن ما يضركم.

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة، { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها { كَالْحِجَارَةِ } التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار, ذاب بخلاف الأحجار.

وقوله: { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي: إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار، وليست " أو " بمعنى " بل " ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم، فقال: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فبهذه الأمور فضلت قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها, وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.

واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله, قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل, ونزلوا عليها الآيات القرآنية, وجعلوها تفسيرا لكتاب الله, محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "

والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة, ولا منزلة على كتاب الله, فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها, وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة, التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها, معاني لكتاب الله, مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل، والله الموفق.

{ 75 - 78 } { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ *

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }

هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب, أي: فلا تطمعوا في إيمانهم وحالتهم لا تقتضي الطمع فيهم, فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه, فيضعون له معاني ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند الله, وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟! فهذا من أبعد الأشياء.

ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم, ما ليس في قلوبهم، { وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم، قال بعضهم لبعض: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: أتظهرون لهم الإيمان وتخبروهم أنكم مثلهم, فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟

يقولون: إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق, وما هم عليه باطل, فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أي: أفلا يكون لكم عقل, فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض.

{ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم, وزعموا أنهم بإسرارهم لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين, فإن هذا غلط منهم وجهل كبير, فإن الله يعلم سرهم وعلنهم, فيظهر لعباده ما أنتم عليه.

{ وَمِنْهُمْ } أي: من أهل الكتاب { أُمِّيُّونَ } أي: عوام, ليسوا من أهل العلم، { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } أي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط, وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم, وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم.

فذكر في هذه الآيات علماءهم, وعوامهم, ومنافقيهم, ومن لم ينافق منهم, فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال، والعوام مقلدون لهم, لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:33 pm

- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 79-100 )
وهي مدنية

{ 79 } { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }

توعد تعالى المحرفين للكتاب, الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون: { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق, وإنما فعلوا ذلك مع علمهم { لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس, فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم, ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق, بل بأبطل الباطل, وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: من التحريف والباطل { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } من الأموال، والويل: شدة العذاب والحسرة, وفي ضمنها الوعيد الشديد.

قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله: { أَفَتَطْمَعُونَ } إلى { يَكْسِبُونَ } فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه, وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة, على ما أصله من البدع الباطلة.

وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني, وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله, لينال به دنيا وقال: إنه من عند الله, مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين, وهذا معنى الكتاب والسنة, وهذا معقول السلف والأئمة, وهذا هو أصول الدين, الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة, لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله.

وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة, كالرافضة, وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء.

{ 80 - 82 } { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

ذكر أفعالهم القبيحة, ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم, ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله, والفوز بثوابه, وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة, أي: قليلة تعد بالأصابع, فجمعوا بين الإساءة والأمن.

ولما كان هذا مجرد دعوى, رد الله تعالى عليهم فقال: { قُلْ } لهم يا أيها الرسول { أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته, فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل. { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا, فتكون دعواهم صحيحة.

وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة, فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم، وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا, لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء, حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم, ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون, قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم, من أعظم المحرمات, وأشنع القبيحات.

ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد, يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم, وهو الحكم الذي لا حكم غيره, لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين، فقال: { بَلَى } أي: ليس الأمر كما ذكرتم, فإنه قول لا حقيقة له، ولكن { مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } وهو نكرة في سياق الشرط, فيعم الشرك فما دونه، والمراد به هنا الشرك, بدليل قوله: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي: أحاطت بعاملها, فلم تدع له منفذا, وهذا لا يكون إلا الشرك, فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته.

{ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية, وهي حجة عليهم كما ترى, فإنها ظاهرة في الشرك, وهكذا كل مبطل يحتج بآية, أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } بالله وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله, متبعا بها سنة رسوله.

فحاصل هاتين الآيتين, أن أهل النجاة والفوز, هم أهل الإيمان والعمل الصالح، والهالكون أهل النار المشركون بالله, الكافرون به.

{ 83 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ }

وهذه الشرائع من أصول الدين, التي أمر الله بها في كل شريعة, لاشتمالها على المصالح العامة, في كل زمان ومكان, فلا يدخلها نسخ, كأصل الدين، ولهذا أمرنا بها في قوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى آخر الآية.

فقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به, استعصوا؛ فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة, والعهود الموثقة { لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } هذا أمر بعبادة الله وحده, ونهى عن الشرك به، وهذا أصل الدين, فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها, فهذا حق الله تعالى على عباده, ثم قال: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين, أو عدم الإحسان والإساءة، لأن الواجب الإحسان, والأمر بالشيء نهي عن ضده.

وللإحسان ضدان: الإساءة, وهي أعظم جرما، وترك الإحسان بدون إساءة, وهذا محرم, لكن لا يجب أن يلحق بالأول، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى, والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد, بل تكون بالحد, كما تقدم.

ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر, وتعليمهم العلم, وبذل السلام, والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.

ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله, أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق, وهو الإحسان بالقول, فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار, ولهذا قال تعالى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }

ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده, أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله, غير فاحش ولا بذيء, ولا شاتم, ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق, واسع الحلم, مجاملا لكل أحد, صبورا على ما يناله من أذى الخلق, امتثالا لأمر الله, ورجاء لثوابه.

ثم أمرهم بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد.

{ ثُمَّ } بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل, عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها,, وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليكم { تَوَلَّيْتُمْ } على وجه الإعراض، لأن المتولي قد يتولى, وله نية رجوع إلى ما تولى عنه، وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر، فنعوذ بالله من الخذلان.

وقوله: { إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ } هذا استثناء, لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم، فأخبر أن قليلا منهم, عصمهم الله وثبتهم.

{ 84 - 86 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }

وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة.

فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا.

والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, فأنكر الله عليهم ذلك فقال: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } وهو فداء الأسير { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج.

وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى: { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسوله عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى.

{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } أي: أعظمه { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار، فلهذا قال: { فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات، { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي: يدفع عنهم مكروه.

{ 87 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }

يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى, وآتاه التوراة, ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة, إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلام، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي: قواه الله بروح القدس.

قال أكثر المفسرين: إنه جبريل عليه السلام, وقيل: إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده.

ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها, لما أتوكم { بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } عن الإيمان بهم، { فَفَرِيقًا } منهم { كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } فقدمتم الهوى على الهدى, وآثرتم الدنيا على الآخرة، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى.

{ 88 } { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ }

أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه, يا أيها الرسول, بأن قلوبهم غلف, أي: عليها غلاف وأغطية, فلا تفقه ما تقول، يعني فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم, وهذا كذب منهم، فلهذا قال تعالى: { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي: أنهم مطرودون ملعونون, بسبب كفرهم، فقليلا المؤمن منهم, أو قليلا إيمانهم، وكفرهم هو الكثير.

{ 89 - 90 } { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }

أي: ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء, المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة, وقد علموا به, وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب, استنصروا بهذا النبي, وتوعدوهم بخروجه, وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا, كفروا به, بغيا وحسدا, أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فلعنهم الله, وغضب عليهم غضبا بعد غضب, لكثرة كفرهم وتوالى شكهم وشركهم.

{ وللكافرين عذاب مهين } أي: مؤلم موجع, وهو صلي الجحيم, وفوت النعيم المقيم، فبئس الحال حالهم, وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله, الكفر به, وبكتبه, وبرسله, مع علمهم وتيقنهم, فيكون أعظم لعذابهم.

{ 91 - 93 } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

أي: وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله, وهو القرآن استكبروا وعتوا, و { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي: بما سواه من الكتب، مع أن الواجب أن يؤمن بما أنزل الله مطلقا, سواء أنزل عليهم, أو على غيرهم, وهذا هو الإيمان النافع, الإيمان بما أنزل الله على جميع رسل الله.

وأما التفريق بين الرسل والكتب, وزعم الإيمان ببعضها دون بعض, فهذا ليس بإيمان, بل هو الكفر بعينه, ولهذا قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا }

ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا, وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه, فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: { وَهُوَ الْحَقُّ } فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات, والأوامر والنواهي, وهو من عند ربهم, فالكفر به بعد ذلك كفر بالله, وكفر بالحق الذي أنزله.

ثم قال: { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه.

فلم تؤمنون بما أنزل عليكم, وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟

وأيضا, فإن كون القرآن مصدقا لما معهم, يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب, قلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه, صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها, ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته, ثم يأتي هو لبينته وحجته, فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن, كفرا بما في أيديهم ونقضا له.

ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: { قُلْ } لهم: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ }

أي: بالأدلة الواضحات المبينة للحق، { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ } أي: بعد مجيئه { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } في ذلك ليس لكم عذر.

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا } أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: صارت هذه حالتهم { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } بسبب كفرهم.

{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق, وأنتم قتلتم أنبياء الله, واتخذتم العجل إلها من دون الله, لما غاب عنكم موسى, نبي الله, ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم, فالتزمتم بالقول, ونقضتم بالفعل، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم, وما هذا الدين؟.

فإن كان هذا إيمانا على زعمكم, فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان, والكفر برسل الله, وكثرة العصيان، وقد عهد أن الإيمان الصحيح, يأمر صاحبه بكل خير, وينهاه عن كل شر، فوضح بهذا كذبهم, وتبين تناقضهم.

{ 94 - 96 } { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

أي: { قُلْ } لهم على وجه تصحيح دعواهم: { إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ } يعني الجنة { خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ } كما زعمتم, أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم, إلا أحد أمرين: إما أن يؤمنوا بالله ورسوله، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم, وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم, فامتنعوا من ذلك.

فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله, مع علمهم بذلك، ولهذا قال تعالى { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر والمعاصي, لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة، فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب.

ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا فقال: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } وهذا أبلغ ما يكون من الحرص, تمنوا حالة هي من المحالات، والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور, لم يغن عنهم شيئا ولا دفع عنهم من العذاب شيئا.

{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.

{ 97 - 98 } { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }

أي: قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله, لآمنوا بك وصدقوا، إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت, وتكبر على الله، فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض.

مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي, لمن آمن به، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك, كفر بالله وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته، فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله.

فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله, والذي أرسل به, والذي أرسل إليه, فهذا وجه ذلك.

{ 99 } { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ }

يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } تحصل بها الهداية لمن استهدى, وإقامة الحجة على من عاند, وهي في الوضوح والدلالة على الحق, قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله, وخرج عن طاعة الله, واستكبر غاية التكبر.

{ 100 } { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

وهذا فيه التعجيب من كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الوفاء بها.

فـ " كُلَّمَا " تفيد التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، ما السبب في ذلك؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:33 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 101-125 )
وهي مدنية

{ 101 - 103 } { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }

أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم، وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به، { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ } الذي أنزل إليهم أي: طرحوه رغبة عنه { وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه، وحقيّة ما جاء به.

تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول, فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.

ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.

كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم.

وهم كذبة في ذلك، فلم يستعمله سليمان، بل نزهه الصادق في قيله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك.

{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر.

{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه, و { يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته, فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.

فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان, فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما يناسبه.

ثم ذكر مفاسد السحر فقال: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما: { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين.

ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا, فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها.

كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.

{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي: اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة.

{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي: نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا, ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.

{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه.


{ 104 - 105 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: { رَاعِنَا } أي: راع أحوالنا, فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا, فانتهزوا الفرصة, فصاروا يخاطبون الرسول بذلك, ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال: { وَقُولُوا انْظُرْنَا } فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور، { وَاسْمَعُوا } لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب والطاعة.

ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع, وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين, أنهم ما يودون { أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ } أي: لا قليلا ولا كثيرا { مِنْ رَبِّكُمْ } حسدا منهم, وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه { ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ومن فضله عليكم, إنزال الكتاب على رسولكم, ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة, ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون, فله الحمد والمنة.

{ 106 - 107 } { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

النسخ: هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه، وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له كفر وهوى محض.

فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ، وأنه ما ينسخ من آية { أَوْ نُنْسِهَا } أي: ننسها العباد, فنزيلها من قلوبهم، { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } وأنفع لكم { أَوْ مِثْلِهَا }

فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة, التي سهل عليها دينها غاية التسهيل.

وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

فإذا كان مالكا لكم, متصرفا فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه, فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير, كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية, فما له والاعتراض؟

وهو أيضا, ولي عباده, ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم, أن يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم.

ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه.


{ 108 - 110 } { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

ينهى الله المؤمنين, أو اليهود, بأن يسألوا رسولهم { كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }

وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } فهذه ونحوها, هي المنهي عنها.

وأما سؤال الاسترشاد والتعلم, فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ويقررهم عليه, كما في قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } ونحو ذلك.

ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة, قد تصل بصاحبها إلى الكفر، قال: { وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }

ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب, وأنهم بلغت بهم الحال, أنهم ودوا { لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا } وسعوا في ذلك, وأعملوا المكايد, وكيدهم راجع عليهم [كما] قال تعالى: { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم.

فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره.

ثم بعد ذلك, أتى الله بأمره إياهم بالجهاد, فشفى الله أنفس المؤمنين منهم, فقتلوا من قتلوا, واسترقوا من استرقوا, وأجلوا من أجلوا { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

ثم أمرهم [الله] بالاشتغال في الوقت الحاضر, بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة وفعل كل القربات، ووعدهم أنهم مهما فعلوا من خير, فإنه لا يضيع عند الله, بل يجدونه عنده وافرا موفرا قد حفظه { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }


{ 111 - 112 } { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

أي: قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم, وهذا مجرد أماني غير مقبولة, إلا بحجة وبرهان, فأتوا بها إن كنتم صادقين، وهكذا كل من ادعى دعوى, لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه، وإلا, فلو قلبت عليه دعواه, وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان, علم كذبهم بتلك الدعوى.

ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد, فقال: { بَلَى } أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم, ولكن { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي: أخلص لله أعماله, متوجها إليه بقلبه، { وَهُوَ } مع إخلاصه { مُحْسِنٌ } في عبادة ربه, بأن عبده بشرعه, فأولئك هم أهل الجنة وحدهم.

{ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم، { وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فحصل لهم المرغوب, ونجوا من المرهوب.

ويفهم منها, أن من ليس كذلك, فهو من أهل النار الهالكين، فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود, والمتابعة للرسول.

{ 113 } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد, إلى أن بعضهم ضلل بعضا, وكفر بعضهم بعضا, كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم.

فكل فرقة تضلل الفرقة الأخرى, ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل, الذي أخبر به عباده, فإنه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين, وامتثل أوامر ربه, واجتنب نواهيه, ومن عداهم, فهو هالك.


{ 114 } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

أي: لا أحد أظلم وأشد جرما, ممن منع مساجد الله, عن ذكر الله فيها, وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات.

{ وَسَعَى } أي: اجتهد وبذل وسعه { فِي خَرَابِهَا } الحسي والمعنوي، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها, وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام, لكل من اتصف بهذه الصفة, فيدخل في ذلك أصحاب الفيل, وقريش, حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية, والنصارى حين أخربوا بيت المقدس, وغيرهم من أنواع الظلمة, الساعين في خرابها, محادة لله, ومشاقة، فجازاهم الله, بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا, إلا خائفين ذليلين, فلما أخافوا عباد الله, أخافهم الله، فالمشركون الذين صدوا رسوله, لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا, حتى أذن الله له في فتح مكة، ومنع المشركين من قربان بيته, فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }

وأصحاب الفيل, قد ذكر الله ما جرى عليهم، والنصارى, سلط الله عليهم المؤمنين, فأجلوهم عنه.

وهكذا كل من اتصف بوصفهم, فلا بد أن يناله قسطه, وهذا من الآيات العظيمة, أخبر بها الباري قبل وقوعها, فوقعت كما أخبر.

واستدل العلماء بالآية الكريمة, على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد.

{ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي: فضيحة كما تقدم { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه, فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية, كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }

بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها, فقال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }

وللمساجد أحكام كثيرة, يرجع حاصلها إلى مضون هذه الآيات الكريمة.


{ 115 } { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

أي: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } خصهما بالذكر, لأنهما محل الآيات العظيمة, فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكا لها, كان مالكا لكل الجهات.

{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا } وجوهكم من الجهات, إذا كان توليكم إياها بأمره, إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس, أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها, فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة, فيتحرى الصلاة إليها, ثم يتبين له الخطأ, أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك، فهذه الأمور, إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا.

وبكل حال, فما استقبل جهة من الجهات, خارجة عن ملك ربه.

{ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فيه إثبات الوجه لله تعالى, على الوجه اللائق به تعالى, وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه, وهو - تعالى - واسع الفضل والصفات عظيمها, عليم بسرائركم ونياتكم.

فمن سعته وعلمه, وسع لكم الأمر, وقبل منكم المأمور, فله الحمد والشكر.


{ 116 - 117 } { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

{ وَقَالُوا } أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل من قال ذلك: { اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله, وأساءوا كل الإساءة, وظلموا أنفسهم.

وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم, قد حلم عليهم, وعافاهم, ورزقهم مع تنقصهم إياه.

{ سُبْحَانَهُ } أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله، فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه, الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.

ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال: { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: جميعهم ملكه وعبيده, يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك, وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره، فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه, وهو غني عنهم, فكيف يكون منهم أحد, يكون له ولدا, والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه.

والله تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون, وهو الغني وأنتم الفقراء، فكيف مع هذا, يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه.

والقنوت نوعان: قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق، وخاص: وهو قنوت العبادة.

فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني: كما في قوله تعالى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }

ثم قال: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق.

{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فلا يستعصى عليه, ولا يمتنع منه.


{ 118 - 119 } { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }

أي: قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم: هلا يكلمنا, كما كلم الرسل، { أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } يعنون آيات الاقتراح, التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة, وآرائهم الكاسدة, التي تجرأوا بها على الخالق, واستكبروا على رسله كقولهم: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ } الآية، وقالوا: { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } الآيات وقوله: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } الآيات.

فهذا دأبهم مع رسلهم, يطلبون آيات التعنت, لا آيات الاسترشاد, ولم يكن قصدهم تبين الحق، فإن الرسل, قد جاءوا من الآيات, بما يؤمن بمثله البشر, ولهذا قال تعالى: { قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فكل موقن, فقد عرف من آيات الله الباهرة, وبراهينه الظاهرة, ما حصل له به اليقين, واندفع عنه كل شك وريب.

ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها, وهي ترجع إلى ثلاثة أمور:

الأول: في نفس إرساله, والثاني: في سيرته وهديه ودله، والثالث: في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة.

فالأول والثاني, قد دخلا في قوله: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ } والثالث دخل في قوله: { بِالْحَقِّ }

وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران, والصلبان, وتبديلهم للأديان, حتى كانوا في ظلمة من الكفر, قد عمتهم وشملتهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, قد انقرضوا قبيل البعثة.

وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى, ولم يتركهم هملا, لأنه حكيم عليم, قدير رحيم، فمن حكمته ورحمته بعباده, أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم, يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له, فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه, وهو آية كبيرة على أنه رسول الله، وأما الثاني: فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة, وعرف سيرته وهديه قبل البعثة, ونشوءه على أكمل الخصال, ثم من بعد ذلك,

قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين, فمن عرفها, وسبر أحواله, عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين, لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم.

وأما الثالث: فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم, والقرآن الكريم, المشتمل على الإخبارات الصادقة, والأوامر الحسنة, والنهي عن كل قبيح, والمعجزات الباهرة, فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة.

قوله: { بَشِيرًا } أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، { نَذِيرًا } لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي.

{ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } أي: لست مسئولا عنهم, إنما عليك البلاغ, وعلينا الحساب.

{ 120 } { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * }

يخبر تعالى رسوله, أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى, إلا باتباعه دينهم, لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه, ويزعمون أنه الهدى، فقل لهم: { إِنَّ هُدَى اللَّهِ } الذي أرسلت به { هُوَ الْهُدَى }

وأما ما أنتم عليه, فهو الهوى بدليل قوله { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

فهذا فيه النهي العظيم, عن اتباع أهواء اليهود والنصارى, والتشبه بهم فيما يختص به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب.


ثم قال: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * }


يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب, ومنَّ عليهم به منة مطلقة, أنهم { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أي: يتبعونه حق اتباعه, والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها,

وآمنوا بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم.

فهؤلاء, هم المؤمنون حقا, لا من قال منهم: { نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه }

ولهذا توعدهم بقوله { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وقد تقدم تفسير الآية التي بعدها.


{ 124 - 125 } { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }

يخبر تعالى, عن عبده وخليله, إبراهيم عليه السلام, المتفق على إمامته وجلالته, الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه, بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي: بأوامر ونواهي, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده, ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء, والامتحان من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره, ويزكو عمله, ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام, الخليل عليه السلام.

فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك, ولم يزل الله شكورا فقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي: يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء الدائم, والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد.

وهذه - لعمر الله - أفضل درجة, تنافس فيها المتنافسون, وأعلى مقام, شمر إليه العاملون, وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم, من كل صديق متبع لهم, داع إلى الله وإلى سبيله.

فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام, وأدرك هذا, طلب ذلك لذريته, لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضا من إمامته, ونصحه لعباد الله, ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية, والمقامات السامية.

فأجابه الرحيم اللطيف, وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي: لا ينال الإمامة في الدين, من ظلم نفسه وضرها, وحط قدرها, لمنافاة الظلم لهذا المقام, فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة, والأخلاق الجميلة, والشمائل السديدة, والمحبة التامة, والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟

ودل مفهوم الآية, أن غير الظالم, سينال الإمامة, ولكن مع إتيانه بأسبابها.

ثم ذكر تعالى, نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم, وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, حاطا للذنوب والآثام.

وفيه من آثار الخليل وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته فقال: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي: مرجعا يثوبون إليه, لحصول منافعهم الدينية والدنيوية, يترددون إليه, ولا يقضون منه وطرا، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار.

ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام, ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم, فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا وتكريما.

{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف, يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم, وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف, والسعي, والوقوف بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج.

فيكون معنى قوله: { مُصَلًّى } أي: معبدا, أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له.

{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي: أوحينا إليهما, وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنجاسات والأقذار, ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي: المصلين، قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد [الحرام]، ثم الاعتكاف, لأن من شرطه المسجد مطلقا، ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا المعنى.

وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما, ويستفرغان وسعهما في ذلك.

ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.

ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:34 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 126-150 )
وهي مدنية

{ 126 } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

أي: وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت, أن يجعله الله بلدا آمنا, ويرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين, تأدبا مع الله, إذ كان دعاؤه الأول, فيه الإطلاق, فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم.

فلما دعا لهم بالرزق, وقيده بالمؤمن, وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر, والعاصي والطائع, قال تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ } أي: أرزقهم كلهم, مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله, ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر, فيتمتع فيها قليلا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } أي: ألجئه وأخرجه مكرها { إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

{ 127 - 129 } { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس, واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء, حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما, حتى يحصل فيه النفع العميم.

ودعوا لأنفسهما, وذريتهما بالإسلام, الذي حقيقته, خضوع القلب, وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح. { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي: علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة, ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا: { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } أي: في ذريتنا { رَسُولًا مِنْهُمْ } ليكون أرفع لدرجتهما, ولينقادوا له, وليعرفوه حقيقة المعرفة. { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } لفظا, وحفظا, وتحفيظا { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } معنى.

{ وَيُزَكِّيهِمْ } بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية, التي لا تزكي النفوس معها. { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } أي: القاهر لكل شيء, الذي لا يمتنع على قوته شيء. { الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك, ابعث فيهم هذا الرسول. فاستجاب الله لهما, فبعث الله هذا الرسول الكريم, الذي رحم الله به ذريتهما خاصة, وسائر الخلق عامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أنا دعوة أبي إبراهيم "

ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم, وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى:


{ 130 - 134 } { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

أي: ما يرغب { عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } بعد ما عرف من فضله { إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي: جهلها وامتهنها, ورضي لها بالدون, وباعها بصفقة المغبون، كما أنه لا أرشد وأكمل, ممن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال: { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي: اخترناه ووفقناه للأعمال, التي صار بها من المصطفين الأخيار.

{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } الذين لهم أعلى الدرجات.

{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ } امتثالا لربه { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إخلاصا وتوحيدا, ومحبة, وإنابة فكان التوحيد لله نعته.

ثم ورثه في ذريته, ووصاهم به, وجعلها كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم, حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه.

فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم بالخصوص, فيجب عليكم كمال الانقياد, واتباع خاتم الأنبياء قال: { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أي: اختاره وتخيره لكم, رحمة بكم, وإحسانا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه, حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه, لأن من عاش على شيء, مات عليه, ومن مات على شيء, بعث عليه.

ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } أي: حضورا { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي: مقدماته وأسبابه، فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا: { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا } فلا نشرك به شيئا, ولا نعدل به أحدا، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فجمعوا بين التوحيد والعمل.

ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.

ثم قال تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي: مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي: كل له عمله, وكل سيجازى بما فعله, لا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم, أنكم على ملتهم, والرضا بمجرد القول, أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم, أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها, هل تصلح للنجاة أم لا؟

{ 135 } { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

أي: دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال.

قل له مجيبا جوابا شافيا: { بَلْ } نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي: مقبلا على الله, معرضا عما سواه, قائما بالتوحيد, تاركا للشرك والتنديد.

فهذا الذي في اتباعه الهداية, وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية.

{ 136 } { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

هذه الآية الكريمة, قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به.

واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام, بهذه الأصول, وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام, وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها، فهي من الإيمان, وأثر من آثاره، فحيث أطلق الإيمان, دخل فيه ما ذكر، وكذلك الإسلام, إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما, كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام, اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة، فقوله تعالى: { قُولُوا } أي: بألسنتكم, متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام, المترتب عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان, بدون اعتقاد القلب, نفاق وكفر، فالقول الخالي من العمل عمل القلب, عديم التأثير, قليل الفائدة, وإن كان العبد يؤجر عليه, إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين القول المجرد, والمقترن به عمل القلب.

وفي قوله: { قُولُوا } إشارة إلى الإعلان بالعقيدة, والصدع بها, والدعوة لها, إذ هي أصل الدين وأساسه.

وفي قوله: { آمَنَّا } ونحوه مما فيه صدور الفعل, منسوبا إلى جميع الأمة, إشارة إلى أنه يجب على الأمة, الاعتصام بحبل الله جميعا, والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا, وعملهم متحدا, وفي ضمنه النهي عن الافتراق، وفيه: أن المؤمنين كالجسد الواحد.

وفي قوله: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } إلخ دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان, على وجه التقييد, بل على وجوب ذلك، بخلاف قوله: "أنا مؤمن" ونحوه, فإنه لا يقال إلا مقرونا بالاستثناء بالمشيئة, لما فيه من تزكية النفس, والشهادة على نفسه بالإيمان.

فقوله: { آمَنَّا بِاللَّهِ } أي: بأنه موجود, واحد أحد, متصف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص وعيب, مستحق لإفراده بالعبادة كلها, وعدم الإشراك به في شيء منها, بوجه من الوجوه.

{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله, من صفات الباري, وصفات رسله, واليوم الآخر, والغيوب الماضية والمستقبلة, والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية, وأحكام الجزاء وغير ذلك.

{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } إلى آخر الآية، فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا, ما نص عليه في الآية, لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار. فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب, أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل, وجب الإيمان به مفصلا.

وقوله: { لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين, التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين.

فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره، فيفرقون بين الرسل والكتب, بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبهم تصديقهم، فإن الرسول الذي زعموا, أنهم قد آمنوا به, قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كذبوا محمدا, فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به, فيكون كفرا برسولهم.

وفي قوله: { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } دلالة على أن عطية الدين, هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية. لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع.

وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله, ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه, ليس لهم من الأمر شيء.

وفي قوله: { مِنْ رَبِّهِمْ } إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب, ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سدى ولا هملا.

وإذا كان ما أوتي النبيون, إنما هو من ربهم, ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة, وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه، فالرسل لا يدعون إلا إلى لخير, ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل واحد منهم, يصدق الآخر, ويشهد له بالحق, من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }

وهذا بخلاف من ادعى النبوة, فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم, كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع, وعرف ما يدعون إليه.

فلما بيَّن تعالى جميع ما يؤمن به, عموما وخصوصا, وكان القول لا يغني عن العمل قال: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي: خاضعون لعظمته, منقادون لعبادته, بباطننا وظاهرنا, مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول, وهو { لَهُ } على العامل وهو { مُسْلِمُونَ }

فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات، واشتملت على الإيمان بجميع الرسل, وجميع الكتب، وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين, ومن ادعى النبوة من الكاذبين، وعلى تعليم الباري عباده, كيف يقولون, ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة، فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء, وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.


{ 137 } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

أي: فإن آمن أهل الكتاب { بمثل ما آمنتم به } - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل, وجميع الكتب, الذين أول من دخل فيهم, وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن, وأسلموا لله وحده, ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله { فَقَدِ اهْتَدَوْا } للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم، أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية, إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا بقولهم: " كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه، و " الهدى " هو العلم بالحق, والعمل به, وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم, وهو الشقاق الذي كانوا عليه, لما تولوا وأعرضوا، فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة, والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم, لأنه السميع لجميع الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات, العليم بما بين أيديهم وما خلفهم, بالغيب والشهادة, بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك, كفاك الله شرهم.

وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد.

ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.


{ 138 } { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ }

أي: الزموا صبغة الله, وهو دينه, وقوموا به قياما تاما, بجميع أعماله الظاهرة والباطنة, وجميع عقائده في جميع الأوقات, حتى يكون لكم صبغة, وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم, أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره, طوعا واختيارا ومحبة, وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة, فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية, لحث الدين على مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال, ومعالي الأمور، فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغة من صبغته

وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ, فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا, أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن, وفعل جميل, وخلق كامل, ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح, ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله, والصبر والحلم, والعفة, والشجاعة, والإحسان القولي والفعلي, ومحبة الله وخشيته, وخوفه, ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود, والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه, وشرد عنه, وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة, من الكفر, والشرك والكذب, والخيانة, والمكر, والخداع, وعدم العفة, والإساءة إلى الخلق, في أقواله, وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود, ولا إحسان إلى عبيده.

فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما, ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله, وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه.

وفي قوله: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة, وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة, لأن " العبادة " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك, حتى يشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده, في تلك الأعمال، فتقديم المعمول, يؤذن بالحصر.

وقال: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار, ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما.


{ 139 } { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ }

المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل الخلافية, حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما, يجتهد في إقامة الحجة على ذلك، والمطلوب منها, أن تكون بالتي هي أحسن, بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق, ويقيم الحجة على المعاند, ويوضح الحق, ويبين الباطل، فإن خرجت عن هذه الأمور, كانت مماراة, ومخاصمة لا خير فيها,

وأحدثت من الشر ما أحدثت، فكان أهل الكتاب, يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين, وهذا مجرد دعوى, تفتقر إلى برهان ودليل. فإذا كان رب الجميع واحدا, ليس ربا لكم دوننا, وكل منا ومنكم له عمله, فاستوينا نحن وإياكم بذلك. فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛ لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء, من غير فرق مؤثر, دعوى باطلة, وتفريق بين متماثلين, ومكابرة ظاهرة. وإنما يحصل التفضيل, بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده، وهذه الحالة, وصف المؤمنين وحدهم, فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم؛ لأن الإخلاص, هو الطريق إلى الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, بالأوصاف الحقيقية التي يسلمها أهل العقول, ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول، ففي هذه الآية, إرشاد لطيف لطريق المحاجة, وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين, والفرق بين المختلفين.


{ 140 } { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

وهذه دعوى أخرى منهم, ومحاجة في رسل الله, زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين.

فرد الله عليهم بقوله: { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } فالله يقول: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وهم يقولون: بل كان يهوديا أو نصرانيا.

فإما أن يكونوا, هم الصادقين العالمين, أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك, فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم, وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق, ونحو ذلك, لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل: الليل أنور, أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك.

وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك, ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء, لم يكونوا هودا ولا نصارى, فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة, فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } فهي شهادة عندهم, مودعة من الله, لا من الخلق, فيقتضي الاهتمام بإقامتها, فكتموها, وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق, وعدم النطق به, وإظهار الباطل, والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله, وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة، فلهذا قال: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل قد أحصى أعمالهم, وعدها وادخر لهم جزاءها, فبئس الجزاء جزاؤهم, وبئست النار, مثوى للظالمين، وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة, عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى عليها.

فيفيد ذلك الوعد والوعيد, والترغيب والترهيب، ويفيد أيضا ذكر الأسماء الحسنى بعد الأحكام, أن الأمر الديني والجزائي, أثر من آثارها, وموجب من موجباتها, وهي مقتضية له.


{ 141 } ثم قال تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

تقدم تفسيرها, وكررها, لقطع التعلق بالمخلوقين, وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان, لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال, لا بالانتساب المجرد للرجال.

تفسير الجزء الثاني

{ 142 - 143 } { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }

قد اشتملت الآية الأولى على معجزة, وتسلية, وتطمين قلوب المؤمنين, واعتراض وجوابه, من ثلاثة أوجه, وصفة المعترض, وصفة المسلم لحكم الله دينه.

فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس, وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم, بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن, وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس, مدة مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة, نحو سنة ونصف - لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها, وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس: { مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه, وفضله وإحسانه، فسلاهم, وأخبر بوقوعه, وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه, قليل العقل, والحلم, والديانة، فلا تبالوا بهم, إذ قد علم مصدر هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه, ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله, إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل, فيتلقى أحكام ربه بالقبول, والانقياد, والتسليم كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية، { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وقد كان في قوله { السفهاء } ما يغني عن رد قولهم, وعدم المبالاة به.

ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة, حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض, فقال تعالى: { قُلْ } لهم مجيبا: { لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله, ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه, ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله, لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره, بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم, وهدايته وإحسانه, أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم, معترض على فضل الله, حسدا لكم وبغيا.

ولما كان قوله: { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } والمطلق يحمل على المقيد, فإن الهداية والضلال, لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله, وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية, التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية, ومنة الله عليها فقال:

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط, فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة, وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء, بين من غلا فيهم, كالنصارى, وبين من جفاهم, كاليهود, بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة, لا تشديدات اليهود وآصارهم, ولا تهاون النصارى.

وفي باب الطهارة والمطاعم, لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم, ولا يطهرهم الماء من النجاسات, وقد حرمت عليهم الطيبات, عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا, ولا يحرمون شيئا, بل أباحوا ما دب ودرج.

بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح, وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله, ومن الأخلاق أجلها, ومن الأعمال أفضلها.

ووهبهم الله من العلم والحلم, والعدل والإحسان, ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا { أُمَّةً وَسَطًا } [كاملين] ليكونوا { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط, يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان, ولا يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول, فهو مقبول, وما شهدت له بالرد, فهو مردود. فإن قيل: كيف يقبل حكمهم على غيرهم, والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟ قيل: إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين, لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة, وحصلت العدالة التامة, كما في هذه الأمة, فإنما المقصود, الحكم بالعدل والحق، وشرط ذلك, العلم والعدل, وهما موجودان في هذه الأمة, فقبل قولها.

فإن شك شاك في فضلها, وطلب مزكيا لها, فهو أكمل الخلق, نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال تعالى: { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }

ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم, أنه إذا كان يوم القيامة, وسأل الله المرسلين عن تبليغهم, والأمم المكذبة عن ذلك, وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة, وزكاها نبيها.

وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة, حجة قاطعة, وأنهم معصومون عن الخطأ, لإطلاق قوله: { وَسَطًا } فلو قدر اتفاقهم على الخطأ, لم يكونوا وسطا, إلا في بعض الأمور, ولقوله: { ولتكونوا شهداء على الناس } يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. وفيها اشتراط العدالة في الحكم, والشهادة, والفتيا, ونحو ذلك.

يقول تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } وهي استقبال بيت المقدس أولا { إِلَّا لِنَعْلَمَ } أي: علما يتعلق به الثواب والعقاب, وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها.

ولكن هذا العلم, لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا, لتمام عدله, وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم, ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن { مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } ويؤمن به, فيتبعه على كل حال, لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة, أنه يستقبل الكعبة، فالمنصف الذي مقصوده الحق, مما يزيده ذلك إيمانا, وطاعة للرسول.

وأما من انقلب على عقبيه, وأعرض عن الحق, واتبع هواه, فإنه يزداد كفرا إلى كفره, وحيرة إلى حيرته, ويدلي بالحجة الباطلة, المبنية على شبهة لا حقيقة لها.

{ وَإِنْ كَانَتْ } أي: صرفك عنها { لَكَبِيرَةٌ } أي: شاقة { إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم, وشكروا, وأقروا له بالإحسان, حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم, الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, وهادما للذنوب والآثام, فلهذا خف عليهم ذلك, وشق على من سواهم.

ثم قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى, بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه, ومستحيل, أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان, بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم, فلا يضيعه, وحفظه نوعان:

حفظ عن الضياع والبطلان, بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة, والأهواء الصادة، وحفظ له بتنميته لهم, وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم, ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأكم, بأن هداكم للإيمان, فسيحفظه لكم, ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره, وثوابه, وحفظه من كل مكدر، بل إذا وجدت المحن المقصود منها, تبيين المؤمن الصادق من الكاذب، فإنها تمحص المؤمنين, وتظهر صدقهم، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم, فدفع هذا الوهم بقوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } بتقديره لهذه المحنة أو غيرها.

ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة, فإن الله لا يضيع إيمانهم, لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها، وطاعة الله, امتثال أمره في كل وقت, بحسب ذلك، وفي هذه الآية, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.

وقوله: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم, أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا, زاد به إيمانهم, وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت, وأجلها.


{ 144 } { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

يقول الله لنبيه: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } أي: كثرة تردده في جميع جهاته, شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة، وقال: { وَجْهِكَ } ولم يقل: " بصرك " لزيادة اهتمامه, ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر.

{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } أي: نوجهك لولايتنا إياك، { قِبْلَةً تَرْضَاهَا } أي: تحبها, وهي الكعبة، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم, حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه, ثم صرح له باستقبالها فقال: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان، { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ } أي: من بر وبحر, وشرق وغرب, جنوب وشمال. { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي: جهته.

ففيها اشتراط استقبال الكعبة, للصلوات كلها, فرضها, ونفلها, وأنه إن أمكن استقبال عينها, وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن, مبطل للصلاة, لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولما ذكر تعالى فيما تقدم, المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم، وذكر جوابهم, ذكر هنا, أن أهل الكتاب والعلم منهم, يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر، لما يجدونه في كتبهم, فيعترضون عنادا وبغيا، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه, إذا كان الأمر مشتبها, وكان ممكنا أن يكون معه صواب.

فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه, وأن المعترض معاند, عارف ببطلان قوله, فإنه لا محل للمبالاة, بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية, فلهذا قال تعالى: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين, وتسلية للمؤمنين.


{ 145 } { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ }

كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل لهم غاية ما يقدر عليه من النصيحة, ويتلطف بهدايتهم, ويحزن إذا لم ينقادوا لأمر الله، فكان من الكفار, من تمرد عن أمر الله, واستكبر على رسل الله, وترك الهدى, عمدا وعدوانا، فمنهم: اليهود والنصارى, أهل الكتاب الأول, الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم عن يقين, لا عن جهل، فلهذا أخبره الله تعالى أنك لو { أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ } أي: بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه، { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } أي: ما تبعوك, لأن اتباع القبلة, دليل على اتباعه، ولأن السبب هو شأن القبلة، وإنما كان الأمر كذلك, لأنهم معاندون, عرفوا الحق وتركوه، فالآيات إنما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق, وهو مشتبه عليه, فتوضح له الآيات البينات، وأما من جزم بعدم اتباع الحق, فلا حيلة فيه.

وأيضا فإن اختلافهم فيما بينهم, حاصل, وبعضهم, غير تابع قبلة بعض، فليس بغريب منهم مع ذلك أن لا يتبعوا قبلتك يا محمد, وهم الأعداء حقيقة الحسدة، وقوله: { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } أبلغ من قوله: " وَلَا تَتَّبِعْ " لأن ذلك يتضمن أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بمخالفتهم, فلا يمكن وقوع ذلك منه، ولم يقل: " ولو أتوا بكل آية " لأنهم لا دليل لهم على قولهم.

وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية, لم يلزم الإتيان بأجوبة الشبه الواردة عليه, لأنها لا حد لها, ولأنه يعلم بطلانها, للعلم بأن كل ما نافى الحق الواضح, فهو باطل, فيكون حل الشبه من باب التبرع.

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ } إنما قال: " أهواءهم " ولم يقل " دينهم " لأن ما هم عليه مجرد أهوية نفس, حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك الدين, اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }

{ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } بأنك على الحق, وهم على الباطل، { إِنَّكَ إِذًا } أي: إن اتبعتهم, فهذا احتراز, لئلا تنفصل هذه الجملة عما قبلها, ولو في الأفهام، { لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي: داخل فيهم, ومندرج في جملتهم، وأي ظلم أعظم, من ظلم, من علم الحق والباطل, فآثر الباطل على الحق، وهذا, وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم, فإن أمته داخلة في ذلك، وأيضا, فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالما مع علو مرتبته, وكثرة حسناته فغيره من باب أولى وأحرى.

{ 146 - 147 } ثم قال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }



يخبر تعالى: أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم, وعرفوا أن محمدا رسول الله, وأن ما جاء به, حق وصدق, وتقينوا ذلك, كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون عليهم بغيرهم، فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون، ولكن فريقا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به, كتموا هذه الشهادة مع تيقنها, وهم يعلمون { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } وفي ضمن ذلك, تسلية للرسول والمؤمنين, وتحذير له من شرهم وشبههم، وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون، فمنهم من آمن [به] ومنهم من كفر [به] جهلا، فالعالم عليه إظهار الحق, وتبيينه وتزيينه, بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال, وغير ذلك, وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق, وتشيينه, وتقبيحه للنفوس, بكل طريق مؤد لذلك، فهولاء الكاتمون, عكسوا الأمر, فانعكست أحوالهم.

{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي: هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء, لما اشتمل عليه من المطالب العالية, والأوامر الحسنة, وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها, ودفع مفاسدها, لصدوره من ربك, الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس, وجميع المصالح.

{ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي: فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه، بل تفكَّر فيه وتأمل, حتى تصل بذلك إلى اليقين, لأن التفكر فيه لا محالة, دافع للشك, موصل لليقين.


{ 148 } { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي: كل أهل دين وملة, له وجهة يتوجه إليها في عبادته، وليس الشأن في استقبال القبلة, فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال, ويدخلها النسخ والنقل, من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن, في امتثال طاعة الله, والتقرب إليه, وطلب الزلفى عنده، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس, حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة, وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع, وهو الذي خلق الله له الخلق, وأمرهم به.

والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها, وإيقاعها على أكمل الأحوال, والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلى الجنات, فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات وحج, عمرة, وجهاد, ونفع متعد وقاصر.

ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير, وينشطها, ما رتب الله عليها من الثواب قال: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته, فيجازي كل عامل بعمله { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }

ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها, والمبادرة إلى إبراء الذمة, من الصيام, والحج, والعمرة, وإخراج الزكاة, والإتيان بسنن العبادات وآدابها, فلله ما أجمعها وأنفعها من آية".


{ 149 - 150 } { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

أي: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } في أسفارك وغيرها, وهذا للعموم, { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي: جهته.

ثم خاطب الأمة عموما فقال: { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال: { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أكده بـ " إن " واللام, لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة, ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال.

{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم, فتأدبوا معه, وراقبوه بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه، فإن أعمالكم غير مغفول عنها, بل مجازون عليها أتم الجزاء, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر.

وقال هنا: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي: شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة, لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين، فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس, لتوجهت عليه الحجة، فإن أهل الكتاب, يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة, هي الكعبة البيت الحرام، والمشركون يرون أن من مفاخرهم, هذا البيت العظيم, وأنه من ملة إبراهيم, وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم, توجهت نحوه حججهم, وقالوا: كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم, وهو من ذريته, وقد ترك استقبال قبلته؟

فباستقبال الكعبة قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين, وانقطعت حججهم عليه.

{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي: من احتج منهم بحجة, هو ظالم فيها, وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم, فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها, ولا يلقى لها بال, فلهذا قال تعالى: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ } لأن حجتهم باطلة, والباطل كاسمه مخذول, مخذول صاحبه، وهذا بخلاف صاحب الحق, فإن للحق صولة وعزا, يوجب خشية من هو معه, وأمر تعالى بخشيته, التي هي أصل كل خير، فمن لم يخش الله, لم ينكف عن معصيته, ولم يمتثل أمره.

وكان صرف المسلمين إلى الكعبة, مما حصلت فيه فتنة كبيرة, أشاعها أهل الكتاب, والمنافقون, والمشركون, وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى, وبينها أكمل بيان, وأكدها بأنواع من التأكيدات, التي تضمنتها هذه الآيات.

منها: الأمر بها, ثلاث مرات, مع كفاية المرة الواحدة، ومنها: أن المعهود, أن الأمر, إما أن يكون للرسول, فتدخل فيه الأمة تبعا, أو للأمة عموما، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله: { فَوَلِّ وَجْهَكَ } والأمة عموما في قوله: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ }

ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة, التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة, كما تقدم توضيحها، ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب، ومنها قوله: { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف, ولكن مع هذا قال: { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }

ومنها: أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم, صحة هذا الأمر, ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم.

ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة, نعمة عظيمة, وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته, لم يزل يتزايد, وكلما شرع لهم شريعة, فهي نعمة عظيمة قال: { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }

فأصل النعمة, الهداية لدينه, بإرسال رسوله, وإنزال كتابه، ثم بعد ذلك, النعم المتممات لهذا الأصل, لا تعد كثرة, ولا تحصر, منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم, وأعطى أمته, ما أتم به نعمته عليه وعليهم, وأنزل الله عليه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }

فلله الحمد على فضله, الذي لا نبلغ له عدا, فضلا عن القيام بشكره، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي: تعلمون الحق, وتعملون به، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد, قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير, ونبههم على سلوك طرقها, وبينها لهم أتم تبيين، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق, المعاندين له فيجادلون فيه, فيتضح بذلك الحق, وتظهر آياته وأعلامه, ويتضح بطلان الباطل, وأنه لا حقيقة له، ولولا قيامه في مقابلة الحق, لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق، وبضدها تتبين الأشياء، فلولا الليل, ما عرف فضل النهار، ولولا القبيح, ما عرف فضل الحسن، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا، فلله الحمد على ذلك.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:35 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 151-176 )
وهي مدنية

{ 151 - 152 } { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }

يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة, ليس ذلك ببدع من إحساننا, ولا بأوله, بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها, فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم, تعرفون نسبه وصدقه, وأمانته وكماله ونصحه.

{ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل, والهدى من الضلال, التي دلتكم أولا, على توحيد الله وكماله, ثم على صدق رسوله, ووجوب الإيمان به, ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب, حتى حصل لكم الهداية التامة, والعلم اليقيني.

{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم, بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة, وذلك كتزكيتكم من الشرك, إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن الخيانة إلى الأمانة, ومن الكبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق, ومن التباغض والتهاجر والتقاطع, إلى التحاب والتواصل والتوادد, وغير ذلك من أنواع التزكية.

{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } أي: القرآن, ألفاظه ومعانيه، { وَالْحِكْمَةَ } قيل: هي السنة, وقيل: الحكمة, معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها, وتنزيل الأمور منازلها.

فيكون - على هذا - تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب, لأن السنة, تبين القرآن وتفسره, وتعبر عنه، { وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لأنهم كانوا قبل بعثته, في ضلال مبين, لا علم ولا عمل، فكل علم أو عمل, نالته هذه الأمة فعلى يده صلى الله عليه وسلم, وبسببه كان، فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق, ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده، فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها؛ فلهذا قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } فأمر تعالى بذكره, ووعد عليه أفضل جزاء, وهو ذكره لمن ذكره, كما قال تعالى على لسان رسوله: { من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم }

وذكر الله تعالى, أفضله, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته, وكثرة ثوابه، والذكر هو رأس الشكر, فلهذا أمر به خصوصا, ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال: { وَاشْكُرُوا لِي } أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون بالقلب, إقرارا بالنعم, واعترافا, وباللسان, ذكرا وثناء, وبالجوارح, طاعة لله وانقيادا لأمره, واجتنابا لنهيه, فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة, وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية, من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال, بيان أنها أكبر النعم, بل هي النعم الحقيقية؟ التي تدوم, إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل, أن يشكروا الله على ذلك, ليزيدهم من فضله, وليندفع عنهم الإعجاب, فيشتغلوا بالشكر.

ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده فقال: { وَلَا تَكْفُرُونِ } المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النعم وجحدها, وعدم القيام بها، ويحتمل أن يكون المعنى عاما, فيكون الكفر أنواعا كثيرة, أعظمه الكفر بالله, ثم أنواع المعاصي, على اختلاف أنواعها وأجناسها, من الشرك, فما دونه.


{ 153 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

أمر الله تعالى المؤمنين, بالاستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية { بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } فالصبر هو: حبس النفس وكفها عما تكره, فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها, وعن معصية الله حتى تتركها, وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر, فلا سبيل لغير الصابر, أن يدرك مطلوبه، خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة, فإنها مفتقرة أشد الافتقار, إلى تحمل الصبر, وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر, فاز بالنجاح, وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها, لم يدرك شيئا, وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم, وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى, واستعانة بالله على العصمة منها, فإنها من الفتن الكبار. وكذلك البلاء الشاق, خصوصا إن استمر, فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية, ويوجد مقتضاها, وهو التسخط, إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله, والتوكل عليه, واللجأ إليه, والافتقار على الدوام.

فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد, بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله، فلهذا أمر الله تعالى به, وأخبر أنه { مَعَ الصَّابِرِينَ } أي: مع من كان الصبر لهم خلقا, وصفة, وملكة بمعونته وتوفيقه, وتسديده، فهانت عليهم بذلك, المشاق والمكاره, وسهل عليهم كل عظيم, وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه معية خاصة, تقتضي محبته ومعونته, ونصره وقربه, وهذه [منقبة عظيمة] للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله, لكفى بها فضلا وشرفا، وأما المعية العامة, فهي معية العلم والقدرة, كما في قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وهذه عامة للخلق.

وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين, ونور المؤمنين, وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة, مجتمعا فيها ما يلزم فيها, وما يسن, وحصل فيها حضور القلب, الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها, استشعر دخوله على ربه, ووقوفه بين يديه, موقف العبد الخادم المتأدب, مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله, مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه لا جرم أن هذه الصلاة, من أكبر المعونة على جميع الأمور فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة, يوجب للعبد في قلبه, وصفا, وداعيا يدعوه إلى امتثال أوامر ربه, واجتناب نواهيه، هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء.

{ 154 } { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ }

لما ذكر تبارك وتعالى, الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور ذكر نموذجا مما يستعان بالصبر عليه, وهو الجهاد في سبيله, وهو أفضل الطاعات البدنية, وأشقها على النفوس, لمشقته في نفسه, ولكونه مؤديا للقتل, وعدم الحياة, التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون به, فإنه سعى لها, ودفع لما يضادها.

ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى: أن من قتل في سبيله, بأن قاتل في سبيل الله, لتكون كلمة الله هي العليا, ودينه الظاهر, لا لغير ذلك من الأغراض, فإنه لم تفته الحياة المحبوبة, بل حصل له حياة أعظم وأكمل, مما تظنون وتحسبون.

فالشهداء { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }

فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى, وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة, والرزق الروحي, وهو الفرح، والاستبشار وزوال كل خوف وحزن، وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة, وتأكل من ثمارها, وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وفي هذه الآية, أعظم حث على الجهاد في سبيل الله, وملازمة الصبر عليه، فلو شعر العباد بما للمقتولين في سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد، ولكن عدم العلم اليقيني التام, هو الذي فتر العزائم, وزاد نوم النائم, وأفات الأجور العظيمة والغنائم، لم لا يكون كذلك والله تعالى قد: { اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ }

فوالله لو كان للإنسان ألف نفس, تذهب نفسا فنفسا في سبيل الله, لم يكن عظيما في جانب هذا الأجر العظيم، ولهذا لا يتمنى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إلا أن يردوا إلى الدنيا, حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة.

وفي الآية, دليل على نعيم البرزخ وعذابه, كما تكاثرت بذلك النصوص.


{ 155 - 157 } { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }

أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن, ليتبين الصادق من الكاذب, والجازع من الصابر, وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان, ولم يحصل معها محنة, لحصل الاختلاط الذي هو فساد, وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن, لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان, ولا ردهم عن دينهم, فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } من الأعداء { وَالْجُوعِ } أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله, أو الجوع, لهلكوا, والمحن تمحص لا تهلك.

{ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ } وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية, وغرق, وضياع, وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة, وقطاع الطريق وغير ذلك.

{ وَالْأَنْفُسِ } أي: ذهاب الأحباب من الأولاد, والأقارب, والأصحاب, ومن أنواع الأمراض في بدن العبد, أو بدن من يحبه، { وَالثَّمَرَاتِ } أي: الحبوب, وثمار النخيل, والأشجار كلها, والخضر ببرد, أو برد, أو حرق, أو آفة سماوية, من جراد ونحوه.

فهذه الأمور, لا بد أن تقع, لأن العليم الخبير, أخبر بها, فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع, حصلت له المصيبتان, فوات المحبوب, وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها, وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان, ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران, وحصل [له] السخط الدال على شدة النقصان.

وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب, فحبس نفسه عن التسخط, قولا وفعلا, واحتسب أجرها عند الله, وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له, بل المصيبة تكون نعمة في حقه, لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها, فقد امتثل أمر الله, وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.

فالصابرين, هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة, والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.

{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ } أي: مملوكون لله, مدبرون تحت أمره وتصريفه, فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها, فقد تصرف أرحم الراحمين, بمماليكه وأموالهم, فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد, علمه, بأن وقوع البلية من المالك الحكيم, الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك, الرضا عن الله, والشكر له على تدبيره, لما هو خير لعبده, وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله, فإنا إليه راجعون يوم المعاد, فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا, لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله, وراجع إليه, من أقوى أسباب الصبر.

{ أُولَئِكَ } الموصوفون بالصبر المذكور { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: ثناء وتنويه بحالهم { وَرَحْمَةٌ } عظيمة، ومن رحمته إياهم, أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } الذين عرفوا الحق, وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون, وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.

ودلت هذه الآية, على أن من لم يصبر, فله ضد ما لهم, فحصل له الذم من الله, والعقوبة, والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين, وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به, إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر.

وأن هذا الابتلاء والامتحان, سنة الله التي قد خلت, ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبيان أنواع المصائب.


{ 158 } { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } أي أعلام دينه الظاهرة, التي تعبد الله بها عباده, وإذا كانا من شعائر الله, فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله, وأن تعظيم شعائره, من تقوى القلوب.

والتقوى واجبة على كل مكلف, وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة, كما عليه الجمهور, ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " خذوا عني مناسككم "

{ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما, لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام، فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم, لا لأنه غير لازم.

ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة, أنه لا يتطوع بالسعي مفردا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت, فإنه يشرع مع العمرة والحج, وهو عبادة مفردة.

فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة, ورمي الجمار فإنها تتبع النسك، فلو فعلت غير تابعة للنسك, كانت بدعة, لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة, لم يشرعها أصلا، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة, فتفعل على غير تلك الصفة, وهذا منه.

وقوله: { وَمَنْ تَطَوَّعَ } أي: فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى { خَيْرًا } من حج وعمرة, وطواف, وصلاة, وصوم وغير ذلك { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } فدل هذا, على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله, ازداد خيره وكماله, ودرجته عند الله, لزيادة إيمانه.

ودل تقييد التطوع بالخير, أن من تطوع بالبدع, التي لم يشرعها الله ولا رسوله, أنه لا يحصل له إلا العناء, وليس بخير له, بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل.

{ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } الشاكر والشكور, من أسماء الله تعالى, الذي يقبل من عباده اليسير من العمل, ويجازيهم عليه, العظيم من الأجر, الذي إذا قام عبده بأوامره, وامتثل طاعته, أعانه على ذلك, وأثنى عليه ومدحه, وجازاه في قلبه نورا وإيمانا, وسعة, وفي بدنه قوة ونشاطا, وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء, وفي أعماله زيادة توفيق.

ثم بعد ذلك, يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا, لم تنقصه هذه الأمور.

ومن شكره لعبده, أن من ترك شيئا لله, أعاضه الله خيرا منه، ومن تقرب منه شبرا, تقرب منه ذراعا, ومن تقرب منه ذراعا, تقرب منه باعا, ومن أتاه يمشي, أتاه هرولة, ومن عامله, ربح عليه أضعافا مضاعفة.

ومع أنه شاكر, فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل, بحسب نيته وإيمانه وتقواه, ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد, فلا يضيعها, بل يجدونها أوفر ما كانت, على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.


{ 159 - 162 } { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }

هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب, وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته, فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } الدالات على الحق المظهرات له، { وَالْهُدَى } وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم, ويتبين به طريق أهل النعيم, من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم, بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين, كتم ما أنزل الله, والغش لعباد الله، فأولئك { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته.

{ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وهم جميع الخليقة, فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة, لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم, وإبعادهم من رحمة الله, فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير, يصلي الله عليه وملائكته, حتى الحوت في جوف الماء, لسعيه في مصلحة الخلق, وإصلاح أديانهم, وقربهم من رحمة الله, فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله, مضاد لأمر الله, مشاق لله, يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب, ندما وإقلاعا, وعزما على عدم المعاودة { وَأَصْلَحُوا } ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن.

ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضا, حتى يبين ما كتمه, ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه, لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة, تاب الله عليه, لأنه { التَّوَّابُ } أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح, بعد الذنب إذا تابوا, وبالإحسان والنعم بعد المنع, إذا رجعوا، { الرَّحِيمُ } الذي اتصف بالرحمة العظيمة, التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا, ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم, لطفا وكرما, هذا حكم التائب من الذنب.

وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه, ولم ينب إليه, ولم يتب عن قريب فأولئك { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا, صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا لا تزول, لأن الحكم يدور مع علته, وجودا وعدما.

و { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في اللعنة, أو في العذاب والمعنيان

{ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل عذابهم دائم شديد مستمر { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي: يمهلون, لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى, ولم يبق لهم عذر فيعتذرون.


{ 163 } { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }

يخبر تعالى - وهو أصدق القائلين - أنه { إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: متوحد منفرد في ذاته, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله، فليس له شريك في ذاته, ولا سمي له ولا كفو له, ولا مثل, ولا نظير, ولا خالق, ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك, فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة, ولا يشرك به أحد من خلقه, لأنه { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } المتصف بالرحمة العظيمة, التي لا يماثلها رحمة أحد, فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته وجدت المخلوقات, وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات، وبرحمته اندفع عنها كل نقمة، وبرحمته عرّف عباده نفسه بصفاته وآلائه, وبيَّن لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم, بإرسال الرسل, وإنزال الكتب.

فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة, فمن الله, وأن أحدا من المخلوقين, لا ينفع أحدا، علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة, وأن يفرد بالمحبة والخوف, والرجاء, والتعظيم, والتوكل, وغير ذلك من أنواع الطاعات.

وأن من أظلم الظلم, وأقبح القبيح, أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد, وأن يشرك المخلوق من تراب, برب الأرباب, أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه, مع الخالق المدبر القادر القوي، الذي قد قهر كل شيء ودان له كل شيء.

ففي هذه الآية, إثبات وحدانية الباري وإلهيته، وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم, واندفاع [جميع] النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى.

{ 164 } ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }


أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة, آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل, ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره، ففي { خَلْقِ السَّمَاوَاتِ } في ارتفاعها واتساعها, وإحكامها, وإتقانها, وما جعل الله فيها من الشمس والقمر, والنجوم, وتنظيمها لمصالح العباد.

وفي خلق { الْأَرْضِ } مهادا للخلق, يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها, والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير, وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها, وحكمته التي بها أتقنها, وأحسنها ونظمها, وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع, من منافع الخلق ومصالحهم, وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله, واستحقاقه أن يفرد بالعبادة, لانفراده بالخلق والتدبير, والقيام بشئون عباده { و } في { اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وهو تعاقبهما على الدوام, إذا ذهب أحدهما, خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر, والبرد, والتوسط, وفي الطول, والقصر, والتوسط, وما ينشأ عن ذلك من الفصول, التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم, وجميع ما على وجه الأرض, من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير, وتسخير, تنبهر له العقول, وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول, ما يدل ذلك على قدرة مصرفها, وعلمه وحكمته, ورحمته الواسعة, ولطفه الشامل, وتصريفه وتدبيره, الذي تفرد به, وعظمته, وعظمة ملكه وسلطانه, مما يوجب أن يؤله ويعبد, ويفرد بالمحبة والتعظيم, والخوف والرجاء, وبذل الجهد في محابه ومراضيه.

{ و } في { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وهي السفن والمراكب ونحوها, مما ألهم الله عباده صنعتها, وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها.

ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح, التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال, والبضائع التي هي من منافع الناس, وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم.

فمن الذي ألهمهم صنعتها, وأقدرهم عليها, وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر, تجري فيه بإذنه وتسخيره, والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية, النار والمعادن المعينة على حملها, وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور, حصلت اتفاقا, أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز, الذي خرج من بطن أمه, لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة, وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد, حكيم عليم, لا يعجزه شيء, ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته, واستكانت لعظمته, وخضعت لجبروته.

وغاية العبد الضعيف, أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب, التي بها وجدت هذه الأمور العظام, فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه, وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له, والخوف والرجاء, وجميع الطاعة, والذل والتعظيم.

{ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ } وهو المطر النازل من السحاب.

{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فأظهرت من أنواع الأقوات, وأصناف النبات, ما هو من ضرورات الخلائق, التي لا يعيشون بدونها.

أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله, وأخرج به ما أخرج ورحمته, ولطفه بعباده, وقيامه بمصالحهم, وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ { وَبَثَّ فِيهَا } أي: في الأرض { مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة, ما هو دليل على قدرته وعظمته, ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس, ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع.

فمنها: ما يأكلون من لحمه, ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم, ومنها: ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم, المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها, ويعلم مستقرها ومستودعها.

وفي { تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } باردة وحارة, وجنوبا وشمالا, وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب, وتارة تؤلف بينه, وتارة تلقحه, وتارة تدره, وتارة تمزقه وتزيل ضرره, وتارة تكون رحمة, وتارة ترسل بالعذاب.

فمن الذي صرفها هذا التصريف, وأودع فيها من منافع العباد, ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات, وتصلح الأبدان والأشجار, والحبوب والنوابت, إلا العزيز الحكيم الرحيم, اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع, ومحبة وإنابة وعبادة؟.

وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير, فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد, ويروي التلول والوهاد, وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته, أمسكه عنهم, فينزله رحمة ولطفا, ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه, وأغزر إحسانه, وألطف امتنانه"

أليس من القبيح بالعباد, أن يتمتعوا برزقه, ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره, وعفوه وصفحه, وعميم لطفه؟

فله الحمد أولا وآخرا, وباطنا وظاهرا.

والحاصل, أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات, وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة, علم بذلك, أنها خلقت للحق وبالحق, وأنها صحائف آيات, وكتب دلالات, على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته, وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر, وأنها مسخرات, ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.

فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون, وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله, ولا رب سواه.


{ 165 - 167 } ثم قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }



ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي: نظراء ومثلاء, يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة.

ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة, وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله, مشاق له, أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك, بل قد حقت عليه كلمة العذاب.

وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله, لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير, وإنما يسوونهم به في العبادة, فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله: { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له, تسمية مجردة, ولفظا فارغا من المعنى، كما قال تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }

{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق, وغيره مخلوق, والرب الرازق ومن عداه مرزوق, والله هو الغني وأنتم الفقراء، وهو الكامل من كل الوجوه, والعبيد ناقصون من جميع الوجوه، والله هو النافع الضار, والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء، فعلم علما يقينا, بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا، سواء كان ملكا أو نبيا, أو صالحا, صنما, أو غير ذلك، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أي: من أهل الأنداد لأندادهم, لأنهم أخلصوا محبتهم له, وهؤلاء أشركوا بها، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة, الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا, ومحبته عين شقاء العبد وفساده, وتشتت أمره.

فلهذا توعدهم الله بقوله: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله, وسعيهم فيما يضرهم.

{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم، { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي: لعلموا علما جازما, أن القوة والقدرة لله كلها, وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها, لا كما اشتبه عليهم في الدنيا, وظنوا أن لها من الأمر شيئا, وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه، فخاب ظنهم, وبطل سعيهم, وحق عليهم شدة العذاب, ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا, ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها, من حيث ظنوا نفعها.

وتبرأ المتبوعون من التابعين, وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا, لأنها كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله, ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له, فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين, وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها, انقلبت عليهم حسرة وندامة, وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير متعلق, فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها, فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين, وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه, فكانت أعماله حقا, لتعلقها بالحق, ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير منقطع كما قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }

وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم, بأن يتركوا الشرك بالله, ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات, فات الأمر, وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا, فهم كذبة, فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها, حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين على الشر, إبليس, ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ }


{ 168 - 170 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

هذا خطاب للناس كلهم, مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب, وثمار, وفواكه, وحيوانات, حالة كونها { حَلَالًا } أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة, ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم.

{ طَيِّبًا } أي: ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير, والخبائث كلها، ففي هذه الآية, دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا, وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته, وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له, وهو المحرم لتعلق حق الله, أو حق عباده به, وهو ضد الحلال.

وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب, يأثم تاركه لظاهر الأمر، ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه التي يأمر بها, وهي جميع المعاصي من كفر, وفسوق, وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب, والحام, ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي: ظاهر العداوة, فلا يريد بأمركم إلا غشكم, وأن تكونوا من أصحاب السعير، فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته, حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين - بعداوته الداعية للحذر منه, ثم لم يكتف بذلك, حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به, وأنه أقبح الأشياء, وأعظمها مفسدة فقال: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ }

أي: الشر الذي يسوء صاحبه, فيدخل في ذلك, جميع المعاصي، فيكون قوله: { وَالْفَحْشَاءِ } من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي, ما تناهى قبحه, كالزنا, وشرب الخمر, والقتل, والقذف, والبخل ونحو ذلك, مما يستفحشه من له عقل، { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فيدخل في ذلك, القول على الله بلا علم, في شرعه, وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله, أو نفى عنه ما أثبته لنفسه, أو أثبت له ما نفاه عن نفسه, فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا, وأوثانا, تقرب من عبدها من الله, فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا, أو أمر بكذا, أو نهى عن كذا, بغير بصيرة, فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: الله خلق هذا الصنف من المخلوقات, للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك, فقد قال على الله بلا علم، ومن أعظم القول على الله بلا علم, أن يتأول المتأول كلامه, أو كلام رسوله, على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال, ثم يقول: إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم, من أكبر المحرمات, وأشملها, وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها, فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده, ويبذلون مكرهم وخداعهم, على إغواء الخلق بما يقدرون عليه.

وأما الله تعالى, فإنه يأمر بالعدل والإحسان, وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلينظر العبد نفسه, مع أي الداعيين هو, ومن أي الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية, الذي كل الفلاح بطاعته, وكل الفوز في خدمته, وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة, الذي لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر، أم تتبع داعي الشيطان, الذي هو عدو الإنسان, الذي يريد لك الشر, ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته, وكل الخسران في ولايته، الذي لا يأمر إلا بشر, ولا ينهى إلا عن خير.

ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله - مما تقدم وصفه - رغبوا عن ذلك وقالوا: { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } فاكتفوا بتقليد الآباء, وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس, وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق, ورغبتهم عنه, وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم, وحسن قصدهم, لكان الحق هو القصد، ومن جعل الحق قصده, ووازن بينه وبين غيره, تبين له الحق قطعا, واتبعه إن كان منصفا.



ثم قال [تعالى]: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }

لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل, وردهم لذلك بالتقليد, علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق, ولا مستجيبين له, بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم، أخبر تعالى, أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها, وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها، فهم يسمعون مجرد الصوت, الذي تقوم به عليهم الحجة, ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم, فلهذا كانوا صما, لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول, عميا, لا ينظرون نظر اعتبار, بكما, فلا ينطقون بما فيه خير لهم.

والسبب الموجب لذلك كله, أنه ليس لهم عقل صحيح, بل هم أسفه السفهاء, وأجهل الجهلاء.

فهل يستريب العاقل, أن من دعي إلى الرشاد, وذيد عن الفساد, ونهي عن اقتحام العذاب, وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه, وفوزه, ونعيمه فعصى الناصح, وتولى عن أمر ربه, واقتحم النار على بصيرة, واتبع الباطل, ونبذ الحق - أن هذا ليس له مسكة من عقل, وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء, فإنه من أسفه السفهاء.


{ 172 - 173 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

هذا أمر للمؤمنين خاصة, بعد الأمر العام, وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي, بسبب إيمانهم, فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق, والشكر لله على إنعامه, باستعمالها بطاعته, والتقوي بها على ما يوصل إليه، فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا }

فالشكر في هذه الآية, هو العمل الصالح، وهنا لم يقل " حلالا " لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة، ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له.

وقوله { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي: فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله, لم يعبده وحده, كما أن من شكره, فقد عبده, وأتى بما أمر به، ويدل أيضا على أن أكل الطيب, سبب للعمل الصالح وقبوله، والأمر بالشكر, عقيب النعم؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة, ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر, ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة.

ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي: ما مات بغير تذكية شرعية, لأن الميتة خبيثة مضرة, لرداءتها في نفسها, ولأن الأغلب, أن تكون عن مرض, فيكون زيادة ضرر واستثنى الشارع من هذا العموم, ميتة الجراد, وسمك البحر, فإنه حلال طيب.

{ وَالدَّمَ } أي: المسفوح كما قيد في الآية الأخرى.

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي: ذبح لغير الله, كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار, والقبور ونحوها, وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات، جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله: { طَيِّبَاتِ } فعموم المحرمات, تستفاد من الآية السابقة, من قوله: { حَلَالًا طَيِّبًا } كما تقدم.

وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها, لطفا بنا, وتنزيها عن المضر، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي: ألجئ إلى المحرم, بجوع وعدم, أو إكراه، { غَيْرَ بَاغٍ } أي: غير طالب للمحرم, مع قدرته على الحلال, أو مع عدم جوعه، { وَلَا عَادٍ } أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له, اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها، { فَلَا إِثْمَ } [أي: جناح] عليه، وإذا ارتفع الجناح الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة, مأمور بالأكل, بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة, وأن يقتل نفسه.

فيجب, إذًا عليه الأكل, ويأثم إن ترك الأكل حتى مات, فيكون قاتلا لنفسه.

وهذه الإباحة والتوسعة, من رحمته تعالى بعباده, فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين, وكان الإنسان في هذه الحالة, ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور, فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال, خصوصا وقد غلبته الضرورة, وأذهبت حواسه المشقة.

وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة: " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور, اضطر إليه الإنسان, فقد أباحه له, الملك الرحمن. [فله الحمد والشكر, أولا وآخرا, وظاهرا وباطنا].


{ 174 - 176 } { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }

هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله, من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله, أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي, ونبذ أمر الله, فأولئك: { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه, إنما حصل لهم بأقبح المكاسب, وأعظم المحرمات, فكان جزاؤهم من جنس عملهم، { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار، { وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة, وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله, والاهتداء به, والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله, وأعرضوا عنه, واختاروا الضلالة على الهدى, والعذاب على المغفرة، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار, فكيف يصبرون عليها, وأنى لهم الجلد عليها؟"

{ ذَلِكَ } المذكور, وهو مجازاته بالعدل, ومنعه أسباب الهداية, ممن أباها واختار سواها.

{ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ومن الحق, مجازاة المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.

وأيضا ففي قوله: { نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه, وتبيين الحق من الباطل, والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده, فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:36 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 177-202 )
وهي مدنية

{ 177 } { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

يقول تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي: ليس هذا هو البر المقصود من العباد, فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك.

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي: بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص.

{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر الله به في كتابه, أو أخبر به الرسول, مما يكون بعد الموت.

{ وَالْمَلَائِكَةِ } الذين وصفهم الله لنا في كتابه, ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم { وَالْكِتَابِ } أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله, وأعظمها القرآن, فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام، { وَالنَّبِيِّينَ } عموما, خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم.

{ وَآتَى الْمَالَ } وهو كل ما يتموله الإنسان من مال, قليلا كان أو كثيرا، أي: أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } أي: حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس, فلا يكاد يخرجه العبد.

فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى, كان هذا برهانا لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه, أن يتصدق وهو صحيح شحيح, يأمل الغنى, ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة, كانت أفضل, لأنه في هذه الحال, يحب إمساكه, لما يتوهمه من العدم والفقر.

وكذلك إخراج النفيس من المال, وما يحبه من ماله كما قال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه.

ثم ذكر المنفق عليهم, وهم أولى الناس ببرك وإحسانك. من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم, وتفرح بسرورهم, الذين يتناصرون ويتعاقلون، فمن أحسن البر وأوفقه, تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي, على حسب قربهم وحاجتهم.

ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم, وليس لهم قوة يستغنون بها، وهذا من رحمته [تعالى] بالعباد, الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله قد أوصى العباد, وفرض عليهم في أموالهم, الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره, رُحِمَ يتيمه.

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة, وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء, بما يدفع مسكنتهم أو يخففها, بما يقدرون عليه, وبما يتيسر، { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فحث الله عباده على إعطائه من المال, ما يعينه على سفره, لكونه مظنة الحاجة, وكثرة المصارف، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته, وخوله من نعمته, أن يرحم أخاه الغريب, الذي بهذه الصفة, على حسب استطاعته, ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره, أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها.

{ وَالسَّائِلِينَ } أي: الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج, توجب السؤال، كمن ابتلي بأرش جناية, أو ضريبة عليه من ولاة الأمور, أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة, كالمساجد, والمدارس, والقناطر, ونحو ذلك, فهذا له حق وإن كان غنيا { وَفِي الرِّقَابِ } فيدخل فيه العتق والإعانة عليه, وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده, وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة.

{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } قد تقدم مرارا, أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان.

{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } والعهد: هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها, وحقوق العباد, التي أوجبها الله عليهم, والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور, ونحو ذلك.

{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي: الفقر, لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة, لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره.

فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم، وإن عرى أو كاد تألم, وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم, وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم.

فكل هذه ونحوها, مصائب, يؤمر بالصبر عليها, والاحتساب, ورجاء الثواب من الله عليها.

{ وَالضَّرَّاءِ } أي: المرض على اختلاف أنواعه, من حمى, وقروح, ورياح, ووجع عضو, حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك, فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لأن النفس تضعف, والبدن يألم, وذلك في غاية المشقة على النفوس, خصوصا مع تطاول ذلك, فإنه يؤمر بالصبر, احتسابا لثواب الله [تعالى].

{ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم, لأن الجلاد, يشق غاية المشقة على النفس, ويجزع الإنسان من القتل, أو الجراح أو الأسر, فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا, ورجاء لثواب الله [تعالى] الذي منه النصر والمعونة, التي وعدها الصابرين.

{ أُولَئِكَ } أي: المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة, والأعمال التي هي آثار الإيمان, وبرهانه ونوره, والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم { الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم, لأن أعمالهم صدقت إيمانهم، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } لأنهم تركوا المحظور, وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير, تضمنا ولزوما, لأن الوفاء بالعهد, يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن قام بها, كان بما سواها أقوم, فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون.

وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة, من الثواب الدنيوي والأخروي, مما لا يمكن تفصيله في [مثل] هذا الموضع.


{ 178 - 179 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

يمتن تعالى على عباده المؤمنين, بأنه فرض عليهم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي: المساواة فيه, وأن يقتل القاتل على الصفة, التي قتل عليها المقتول, إقامة للعدل والقسط بين العباد.

وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين, فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول, إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل, وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد, ويمنعوا الولي من الاقتصاص, كما عليه عادة الجاهلية, ومن أشبههم من إيواء المحدثين.

ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال: { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها, الذكر بالذكر، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر, والذكر بالأنثى, فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله: " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة, على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان بالولد, لورود السنة بذلك، مع أن في قوله: { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه ليس من العدل, أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة, ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله, أو أذية شديدة جدا من الولد له.

وخرج من العموم أيضا, الكافر بالسنة, مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة.

وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه، والعبد بالعبد, ذكرا كان أو أنثى, تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل بمفهومها على أن الحر, لا يقتل بالعبد, لكونه غير مساو له، والأنثى بالأنثى, أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة, وتقدم وجه ذلك.

وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل, وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية, أو عفا بعض الأولياء, فإنه يسقط القصاص, وتجب الدية, وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.

فإذا عفا عنه وجب على الولي, [أي: ولي المقتول] أن يتبع القاتل { بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه, ولا يحمله ما لا يطيق, بل يحسن الاقتضاء والطلب, ولا يحرجه.

وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص, ولا إساءة فعلية أو قولية, فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو, إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق, بالأداء بإحسان

وفي قوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا.

وفي قوله: { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر, لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان, فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر, لا يكفر بها فاعلها, وإنما ينقص بذلك إيمانه.

وإذا عفا أولياء المقتول, أو عفا بعضهم, احتقن دم القاتل, وصار معصوما منهم ومن غيرهم, ولهذا قال: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي: بعد العفو { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه, فيؤخذ مما تقدم, لأنه قتل مكافئا له, فيجب قتله بذلك.

وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل, فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله, ولا يجوز العفو عنه, وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول, لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره.

ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي: تنحقن بذلك الدماء, وتنقمع به الأشقياء, لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل, لا يكاد يصدر منه القتل, وإذا رئي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر, فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل, لم يحصل انكفاف الشر, الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية, فيها من النكاية والانزجار, ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير.

ولما كان هذا الحكم, لا يعرف حقيقته, إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة, خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى, يحب من عباده, أن يعملوا أفكارهم وعقولهم, في تدبر ما في أحكامه من الحكم, والمصالح الدالة على كماله, وكمال حكمته وحمده, وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة, فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب, وناداهم رب الأرباب, وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون.

وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.

{ 180 - 182 } { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

أي: فرض الله عليكم, يا معشر المؤمنين { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي: أسبابه, كالمرض المشرف على الهلاك, وحضور أسباب المهالك، وكان قد { تَرَكَ خَيْرًا } [أي: مالا] وهو المال الكثير عرفا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل.

وقوله: { حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى.

واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف الجاري.

ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملا، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد.

فبهذا الجمع, يحصل الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.

ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية, لما يتوهمه أن من بعده, قد يبدل ما وصى به قال تعالى: { فَمَنْ بَدَّلَهُ } أي: الإيصاء للمذكورين أو غيرهم { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } [أي:] بعدما عقله, وعرف طرقه وتنفيذه، { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } وإلا فالموصي وقع أجره على الله, وإنما الإثم على المبدل المغير.

{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } يسمع سائر الأصوات, ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته، فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه, وأن لا يجور في وصيته، { عَلِيمٌ } بنيته, وعليم بعمل الموصى إليه، فإذا اجتهد الموصي, وعلم الله من نيته ذلك, أثابه ولو أخطأ، وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل، فإن الله عليم به, مطلع على ما فعله, فليحذر من الله، هذا حكم الوصية العادلة.

وأما الوصية التي فيها حيف وجنف, وإثم، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها, أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل, وأن ينهاه عن الجور والجنف, وهو: الميل بها عن خطأ, من غير تعمد, والإثم: وهو التعمد لذلك.

فإن لم يفعل ذلك, فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم, ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة, ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما, وليس عليهم إثم, كما على مبدل الوصية الجائزة، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي: يغفر جميع الزلات, ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه, ومنه مغفرته لمن غض من نفسه, وترك بعض حقه لأخيه, لأن من سامح, سامحه الله، غفور لميتهم الجائر في وصيته, إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته، رحيم بعباده, حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية, وعلى بيان من هي له, وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة, والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة.


{ 183 - 185 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

يخبر تعالى بما منَّ به على عباده, بأنه فرض عليهم الصيام, كما فرضه على الأمم السابقة, لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.

وفيه تنشيط لهذه الأمة, بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة, التي اختصيتم بها.

ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.

فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربا بذلك إلى الله, راجيا بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى.

ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.

ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام, أخبر أنه أيام معدودات, أي: قليلة في غاية السهولة.

ثم سهل تسهيلا آخر. فقال: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة, في الغالب, رخص الله لهما, في الفطر.

ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن, أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى السفر, وحصلت الراحة.

وفي قوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان, كاملا كان, أو ناقصا, وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة, عن أيام طويلة حارة كالعكس.

وقوله: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام, لما كانوا غير معتادين للصيام, وكان فرضه حتما, فيه مشقة عليهم, درجهم الرب الحكيم, بأسهل طريق، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم, وهو أفضل, أو يطعم، ولهذا قال: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }

ثم بعد ذلك, جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق, يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة, كالشيخ الكبير, فدية عن كل يوم مسكين وهذا هو الصحيح]

{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة.

فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام.

فلما قرره, وبين فضيلته, وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.

ولما كان النسخ للتخيير, بين الصيام والفداء خاصة, أعاد الرخصة للمريض والمسافر, لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير, ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله.

وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله, سهَّله تسهيلا آخر, إما بإسقاطه, أو تخفيفه بأنواع التخفيفات.

وهذه جملة لا يمكن تفصيلها, لأن تفاصيلها, جميع الشرعيات, ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.

{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده, وبالتكبير عند انقضائه, ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.


{ 186 } { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }

هذا جواب سؤال، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله, أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟ فنزل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } لأنه تعالى, الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة، ولهذا قال: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } والدعاء نوعان: دعاء عبادة, ودعاء مسألة.

والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه, وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.

فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء, وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية, والإيمان به, الموجب للاستجابة، فلهذا قال: { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره, سبب لحصول العلم كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا

{ 187 } ثم قال تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.



{ فتاب } الله { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم { وعفا عنكم } ما سلف من التخون.

{ فالآن } بعد هذه الرخصة والسعة من الله { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك.

{ وابتغوا ما كتب الله لكم } أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح.

ومما كتب الله لكم ليلة القدر، الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك.

{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه.

وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.

وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق.

{ ثم } إذا طلع الفجر { أتموا الصيام } أي: الإمساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك، استثناه بقوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } أي: وأنتم متصفون بذلك، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [تعالى]، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد.

ويستفاد من تعريف المساجد، أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس.

وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف.

{ تلك } المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات { حدود الله } التي حدها لعباده، ونهاهم عنها، فقال: { فلا تقربوها } أبلغ من قوله: " فلا تفعلوها " لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه.

والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها: { تلك حدود الله فلا تعتدوها } فينهى عن مجاوزتها.

{ كذلك } أي: بيَّن [الله] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين، وأوضحها لهم أكمل إيضاح.

{ يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا للتقوى.


{ 188 } { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم, لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه, ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة.

ولما كان أكلها نوعين: نوعا بحق, ونوعا بباطل, وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل, قيده تعالى بذلك، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار كلها, فإنها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة, ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف، والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه.

فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرما, ولا يحلل حراما, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة.

فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله.

وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى: { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }


{ 189 } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

يقول تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها؟ أو عن ذاتها، { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } أي: جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر, ثم يتزايد إلى نصفه, ثم يشرع في النقص إلى كماله, وهكذا, ليعرف الناس بذلك, مواقيت عباداتهم من الصيام, وأوقات الزكاة, والكفارات, وأوقات الحج.

ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات, ويستغرق أوقاتا كثيرة قال: { وَالْحَجِّ } وكذلك تعرف بذلك, أوقات الديون المؤجلات, ومدة الإجارات, ومدة العدد والحمل, وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق، فجعله تعالى, حسابا, يعرفه كل أحد, من صغير, وكبير, وعالم, وجاهل، فلو كان الحساب بالسنة الشمسية, لم يعرفه إلا النادر من الناس.

{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب, إذا أحرموا, لم يدخلوا البيوت من أبوابها, تعبدا بذلك, وظنا أنه بر. فأخبر الله أنه ليس ببر لأن الله تعالى, لم يشرعه لهم، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله, فهو متعبد ببدعة، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم, التي هي قاعدة من قواعد الشرع.

ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور, أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب, الذي قد جعل له موصلا، فالآمر بالمعروف, والناهي عن المنكر, ينبغي أن ينظر في حالة المأمور, ويستعمل معه الرفق والسياسة, التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم, ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله, يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه, فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } هذا هو البر الذي أمر الله به, وهو لزوم تقواه على الدوام, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فإنه سبب للفلاح, الذي هو الفوز بالمطلوب, والنجاة من المرهوب، فمن لم يتق الله تعالى, لم يكن له سبيل إلى الفلاح, ومن اتقاه, فاز بالفلاح والنجاح.


{ 190 - 193 } { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *


وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ }

هذه الآيات, تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله, وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة, لما قوي المسلمون للقتال, أمرهم الله به, بعد ما كانوا مأمورين بكف أيديهم، وفي تخصيص القتال { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } حث على الإخلاص, ونهي عن الاقتتال في الفتن بين المسلمين.



{ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أي: الذين هم مستعدون لقتالكم, وهم المكلفون الرجال, غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال.

والنهي عن الاعتداء, يشمل أنواع الاعتداء كلها, من قتل من لا يقاتل, من النساء, والمجانين والأطفال, والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى, وقتل الحيوانات, وقطع الأشجار [ونحوها], لغير مصلحة تعود للمسلمين.

ومن الاعتداء, مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها, فإن ذلك لا يجوز.

{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } هذا أمر بقتالهم, أينما وجدوا في كل وقت, وفي كل زمان قتال مدافعة, وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم قتالهم { عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وأنه لا يجوز إلا أن يبدأوا بالقتال, فإنهم يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت, حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا, فإن الله يتوب عليهم, ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله, والشرك في المسجد الحرام, وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده.

ولما كان القتال عند المسجد الحرام, يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام, أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك, والصد عن دينه, أشد من مفسدة القتل, فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم.

ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين, لدفع أعلاهما.

ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله, وأنه ليس المقصود به, سفك دماء الكفار, وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن { يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } تعالى, فيظهر دين الله [تعالى], على سائر الأديان, ويدفع كل ما يعارضه, من الشرك وغيره, وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود, فلا قتل ولا قتال، { فَإِنِ انْتَهَوْا } عن قتالكم عند المسجد الحرام { فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } أي: فليس عليهم منكم اعتداء, إلا من ظلم منهم, فإنه يستحق المعاقبة, بقدر ظلمه.


{ 194 } { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

يقول تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية, عن الدخول لمكة, وقاضوهم على دخولها من قابل, وكان الصد والقضاء في شهر حرام, وهو ذو القعدة, فيكون هذا بهذا، فيكون فيه, تطييب لقلوب الصحابة, بتمام نسكهم, وكماله.

ويحتمل أن يكون المعنى: إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه, وهم المعتدون, فليس عليكم في ذلك حرج، وعلى هذا فيكون قوله: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } من باب عطف العام على الخاص، أي: كل شيء يحترم من شهر حرام, أو بلد حرام, أو إحرام, أو ما هو أعم من ذلك, جميع ما أمر الشرع باحترامه, فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه، فمن قاتل في الشهر الحرام, قوتل، ومن هتك البلد الحرام, أخذ منه الحد, ولم يكن له حرمة، ومن قتل مكافئا له قتل به, ومن جرحه أو قطع عضوا, منه, اقتص منه، ومن أخذ مال غيره المحترم, أخذ منه بدله، ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا؟ خلاف بين العلماء, الراجح من ذلك, أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف, إذا لم يقره غيره, والزوجة, والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة [من الإنفاق عليه] فإنه يجوز أخذه من ماله.

وإن كان السبب خفيا, كمن جحد دين غيره, أو خانه في وديعة, أو سرق منه ونحو ذلك, فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له, جمعا بين الأدلة, ولهذا قال تعالى, تأكيدا وتقوية لما تقدم: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } هذا تفسير لصفة المقاصة, وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي.

ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي, أمر تعالى بلزوم تقواه, التي هي الوقوف عند حدوده, وعدم تجاوزها, وأخبر تعالى أنه { مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي: بالعون, والنصر, والتأييد, والتوفيق.

ومن كان الله معه, حصل له السعادة الأبدية، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه, وخذله, فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.


{ 195 } { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله, وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي كل طرق الخير, من صدقة على مسكين, أو قريب, أو إنفاق على من تجب مؤنته.

وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال, وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة, الإعانة على تقوية المسلمين, وعلى توهية الشرك وأهله, وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح, لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله, إبطال للجهاد, وتسليط للأعداء, وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } كالتعليل لذلك، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد, إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح, فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك, ترك الجهاد في سبيل الله, أو النفقة فيه, الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف, أو محل مسبعة أو حيات, أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا, أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه, ممن ألقى بيده إلى التهلكة.

ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله, واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض, التي في تركها هلاك للروح والدين.

ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان, أمر بالإحسان عموما فقال: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان, لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.

ويدخل فيه الإحسان بالجاه, بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك, الإحسان بالأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس, من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم, وعيادة مرضاهم, وتشييع جنائزهم, وإرشاد ضالهم, وإعانة من يعمل عملا, والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك, مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضا, الإحسان في عبادة الله تعالى, وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: " أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك "

فمن اتصف بهذه الصفات, كان من الذين قال الله فيهم: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.


{ ولما فرغ تعالى من [ذكر] أحكام الصيام فالجهاد, ذكر أحكام الحج فقال: 196 } { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

يستدل بقوله [تعالى]: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } على أمور:



أحدها: وجوب الحج والعمرة, وفرضيتهما.

الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما, وواجباتهما, التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: " خذوا عني مناسككم "

الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.

الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما, ولو كانا نفلا.

الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما, وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.

السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى.

السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما, إلا بما استثناه الله, وهو الحصر, فلهذا قال: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما, بمرض, أو ضلالة, أو عدو, ونحو ذلك من أنواع الحصر, الذي هو المنع.

{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي, وهو سبع بدنة, أو سبع بقرة, أو شاة يذبحها المحصر, ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لما صدهم المشركون عام الحديبية، فإن لم يجد الهدي, فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل.

ثم قال تعالى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وهذا من محظورات الإحرام, إزالة الشعر, بحلق أو غيره, لأن المعنى واحد من الرأس, أو من البدن, لأن المقصود من ذلك, حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته, وهو موجود في بقية الشعر.

وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر, تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر, حتى يبلغ الهدي محله, وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر, كما تدل عليه الآية.

ويستدل بهذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي, لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر، فإذا طاف وسعى للعمرة, أحرم بالحج, ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي، وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك, لما فيه من الذل والخضوع لله والانكسار له, والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد, وليس عليه في ذلك من ضرر، فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض, ينتفع بحلق رأسه له, أو قروح, أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه, ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلاثة أيام, أو صدقة على ستة مساكين أو نسك ما يجزئ في أضحية, فهو مخير، والنسك أفضل, فالصدقة, فالصيام.

ومثل هذا, كل ما كان في معنى ذلك, من تقليم الأظفار, أو تغطية الرأس, أو لبس المخيط, أو الطيب, فإنه يجوز عند الضرورة, مع وجوب الفدية المذكورة لأن القصد من الجميع, إزالة ما به يترفه.

ثم قال تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره، { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } بأن توصل بها إليه, وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها.

{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: فعليه ما تيسر من الهدي, وهو ما يجزئ في أضحية، وهذا دم نسك, مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة, ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة, وقبل الشروع في الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له.

ويدل مفهوم الآية, على أن المفرد للحج, ليس عليه هدي، ودلت الآية, على جواز, بل فضيلة المتعة, وعلى جواز فعلها في أشهر الحج.

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أي الهدي أو ثمنه { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة, وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر, أيام رمي الجمار, والمبيت بـ "منى" ولكن الأفضل منها, أن يصوم السابع, والثامن, والتاسع، { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي: فرغتم من أعمال الحج, فيجوز فعلها في مكة, وفي الطريق, وعند وصوله إلى أهله.

{ ذَلِكَ } المذكور من وجوب الهدي على المتمتع { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بأن كان عند مسافة قصر فأكثر, أو بعيدا عنه عرفات, فهذا الذي يجب عليه الهدي, لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام, فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أموركم, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه، ومن ذلك, امتثالكم, لهذه المأمورات, واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي: لمن عصاه, وهذا هو الموجب للتقوى, فإن من خاف عقاب الله, انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب, ولم يرج الثواب, اقتحم المحارم, وتجرأ على ترك الواجبات.

{ 197 } { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }

يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.

وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.

والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا.

{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:36 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 203-225 )
وهي مدنية

{ 203 } { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات, وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد, لمزيتها وشرفها, وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها, ولكون الناس أضيافا لله فيها, ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيام التشريق, أيام أكل وشرب, وذكر الله "

ويدخل في ذكر الله فيها, ذكره عند رمي الجمار, وعند الذبح, والذكر المقيد عقب الفرائض، بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير المطلق, كالعشر, وليس ببعيد.

{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } أي: خرج من " منى " ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ } بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } وهذا تخفيف من الله [تعالى] على عباده, في إباحة كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين, فالمتأخر أفضل, لأنه أكثر عبادة.

ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره, والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم، والمتأخر فقط قيده بقوله: { لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الله في جميع أموره, وأحوال الحج، فمن اتقى الله في كل شيء, حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون شيء, كان الجزاء من جنس العمل.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه, وجد جزاء التقوى عنده, ومن لم يتقه, عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى على العلم بذلك.

{ 204 - 206 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }

لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره, وخصوصا في الأوقات الفاضلة الذي هو خير ومصلحة وبر, أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله, فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا نطق, ظننته يتكلم بكلام نافع, ويؤكد ما يقول بأنه { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } بأن يخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما نطق به, وهو كاذب في ذلك, لأنه يخالف قوله فعله.

فلو كان صادقا, لتوافق القول والفعل, كحال المؤمن غير المنافق, فلهذا قال: { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أي: إذا خاصمته, وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب, وما يترتب على ذلك, ما هو من مقابح الصفات, ليس كأخلاق المؤمنين, الذين جعلوا السهولة مركبهم, والانقياد للحق وظيفتهم, والسماحة سجيتهم.

{ وَإِذَا تَوَلَّى } هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك { سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } أي: يجتهد على أعمال المعاصي, التي هي إفساد في الأرض { وَيُهْلِكَ } بسبب ذلك { الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } فالزروع والثمار والمواشي, تتلف وتنقص, وتقل بركتها, بسبب العمل في المعاصي، { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وإذا كان لا يحب الفساد, فهو يبغض العبد المفسد في الأرض, غاية البغض, وإن قال بلسانه قولا حسنا.

ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص, ليست دليلا على صدق ولا كذب, ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها, المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود, والمحق والمبطل من الناس, بسبر أعمالهم, والنظر لقرائن أحوالهم, وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم.

ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله, إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف، و { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على الناصحين.

{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } التي هي دار العاصين والمتكبرين، { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي: المستقر والمسكن, عذاب دائم, وهم لا ينقطع, ويأس مستمر, لا يخفف عنهم العذاب, ولا يرجون الثواب, جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم، فعياذا بالله من أحوالهم.

{ 207 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم

{ 208 - 209 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي: في جميع شرائع الدين, ولا يتركوا منها شيئا, وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه, إن وافق الأمر المشروع هواه فعله, وإن خالفه, تركه، بل الواجب أن يكون الهوى, تبعا للدين, وأن يفعل كل ما يقدر عليه, من أفعال الخير, وما يعجز عنه, يلتزمه وينويه, فيدركه بنيته.

ولما كان الدخول في السلم كافة, لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين, لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء, وما به الضرر عليكم.

ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل, قال تعالى: { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي: على علم ويقين { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وفيه من الوعيد الشديد, والتخويف, ما يوجب ترك الزلل, فإن العزيز القاهر الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة.

{ 210 } { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }

وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال, الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع, ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.

وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر, وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري [تبارك] تعالى: { فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } ليفصل بين عباده بالقضاء العدل.

فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة, ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.

وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, المثبتين للصفات الاختيارية, كالاستواء, والنزول, والمجيء, ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى, عن نفسه, أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته, من غير تشبيه ولا تحريف، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم, من الجهمية, والمعتزلة, والأشعرية ونحوهم, ممن ينفي هذه الصفات, ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان, بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله, والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي, بل ولا دليل عقلي، أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة, ظاهرها بل صريحها, دال على مذهب أهل السنة والجماعة, وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل, أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات، بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل, وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل لهم: الكلام على الصفات, يتبع الكلام على الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات, فلله صفات لا تشبهها الصفات، فصفاته تبع لذاته, وصفات خلقه, تبع لذواتهم, فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه.

ويقال أيضا, لمن أثبت بعض الصفات, ونفى بعضا, أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه, وأثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع, وتكون منكرا لرب العالمين، وأما إثباتك بعض ذلك, ونفيك لبعضه, فهذا تناقض، ففرق بين ما أثبته, وما نفيته, ولن تجد إلى الفرق سبيلا، فإن قلت: ما أثبته لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة: والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها، فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه، قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه، فما أجبت به النفاة, أجابك به أهل السنة, لما نفيته.

والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته, فهو متناقض, لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي, بل قد خالف المعقول والمنقول.



{216 }{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

هذه الآية, فيها فرض القتال في سبيل الله, بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه, لضعفهم, وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكثر المسلمون, وقووا أمرهم الله تعالى بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس, لما فيه من التعب والمشقة, وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف، ومع هذا, فهو خير محض, لما فيه من الثواب العظيم, والتحرز من العقاب الأليم, والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم, وغير ذلك, مما هو مرب, على ما فيه من الكراهة { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة, فإنه شر, لأنه يعقب الخذلان, وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله, وحصول الذل والهوان, وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب.

وهذه الآيات عامة مطردة, في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.

وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر مطردا, ولكن الغالب على العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرا من الأمور, فقيض الله [له] من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له, فالأوفق له في ذلك, أن يشكر الله, ويجعل الخير في الواقع, لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه, وأقدر على مصلحة عبده منه, وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى:] { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره, سواء سرتكم أو ساءتكم.




ولما كان الأمر بالقتال, لو لم يقيد, لشمل الأشهر الحرم وغيرها, استثنى تعالى, القتال في الأشهر الحرم فقال: { 217 } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام.

ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام, والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنهم أحق به من المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين.

ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }

وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه, التي تشككهم في دينهم.

ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته.

وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }

ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي, فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.

{ 218 } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

هذه الأعمال الثلاثة, هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية, وبها يعرف ما مع الإنسان, من الربح والخسران، فأما الإيمان, فلا تسأل عن فضيلته, وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة, وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد, قبلت أعمال الخير منه, وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل, ولا فرض, ولا نفل.

وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف, لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله, وأهله, وخلانه, تقربا إلى الله ونصرة لدينه.

وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء, والسعي التام في نصرة دين الله, وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة, وجزاؤه, أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر, لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام, وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.

فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا.

فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله, لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل, وعدم القيام بالأسباب, فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه, ونقص عقله, بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح, ووجود الغلة بلا بذر, وسقي, ونحو ذلك.

وفي قوله: { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها, ويعول عليها, بل يرجو رحمة ربه, ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه, وستر عيوبه.

ولهذا قال: { وَاللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب توبة نصوحا { رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء, وعم جوده وإحسانه كل حي.

وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة, حصل له مغفرة الله, إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.

وإذا حصلت له المغفرة, اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب, التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة, حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم, فلولا توفيقه إياهم, لم يريدوها, ولولا إقدارهم عليها, لم يقدروا عليها, ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولا وآخرا, وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.

{ 219 - 220 } ثم قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي: يسألك - يا أيها الرسول - المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر, وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام, فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيه, أن يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما.

فأخبر أن إثمهما ومضارهما, وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال, والصد عن ذكر الله, وعن الصلاة, والعداوة, والبغضاء - أكبر مما يظنونه من نفعهما, من كسب المال بالتجارة بالخمر, وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس, عند تعاطيهما، وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما, لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته, ويجتنب ما ترجحت مضرته، ولكن لما كانوا قد ألفوهما, وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة, قدم هذه الآية, مقدمة للتحريم, الذي ذكره في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } إلى قوله: { مُنْتَهُونَ } وهذا من لطفه ورحمته وحكمته، ولهذا لما نزلت, قال عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا.

فأما الخمر: فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه, من أي نوع كان، وأما الميسر: فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين, من النرد, والشطرنج, وكل مغالبة قولية أو فعلية, بعوض سوى مسابقة الخيل, والإبل, والسهام, فإنها مباحة, لكونها معينة على الجهاد, فلهذا رخص فيها الشارع.

{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }

وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم، فيسر الله لهم الأمر, وأمرهم أن ينفقوا العفو, وهو المتيسر من أموالهم, الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه, من غني وفقير ومتوسط, كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله, ولو شق تمرة.

ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم, ولا يكلفهم ما يشق عليهم. ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا, أو تكليفا لنا [بما يشق] بل أمرنا بما فيه سعادتنا, وما يسهل علينا, وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد.

ولما بيّن تعالى هذا البيان الشافي, وأطلع العباد على أسرار شرعه قال: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } أي: الدالات على الحق, المحصلات للعلم النافع والفرقان، { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } أي: لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه, وتعرفوا أن أوامره, فيها مصالح الدنيا والآخرة، وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها, فترفضوها وفي الآخرة وبقائها, وأنها دار الجزاء فتعمروها.

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

لما نزل قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } شق ذلك على المسلمين, وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى, خوفا على أنفسهم من تناولها, ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها, وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأخبرهم تعالى أن المقصود, إصلاح أموال اليتامى, بحفظها وصيانتها, والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى, لأنهم إخوانكم, ومن شأن الأخ مخالطة أخيه, والمرجع في ذلك إلى النية والعمل، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم, وليس له طمع في ماله, فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس، ومن علم الله من نيته, أن قصده بالمخالطة, التوصل إلى أكلها وتناولها, فذلك الذي حرج وأثم, و " الوسائل لها أحكام المقاصد "

وفي هذه الآية, دليل على جواز أنواع المخالطات, في المآكل والمشارب, والعقود وغيرها, وهذه الرخصة, لطف من الله [تعالى] وإحسان, وتوسعة على المؤمنين، وإلا فـ { لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } أي: شق عليكم بعدم الرخصة بذلك, فحرجتم. وشق عليكم وأثمتم، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي: له القوة الكاملة, والقهر لكل شيء، ولكنه مع ذلك { حَكِيمٌ } لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة, فعزته لا تنافي حكمته، فلا يقال: إنه ما شاء فعل, وافق الحكمة أو خالفها، بل يقال: إن أفعاله وكذلك أحكامه, تابعة لحكمته, فلا يخلق شيئا عبثا, بل لا بد له من حكمة, عرفناها, أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة, أو راجحة, ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة, لتمام حكمته ورحمته.

{ 221 } { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }

أي: { وَلَا تَنْكِحُوا } النساء { الْمُشْرِكَاتِ } ما دمن على شركهن { حَتَّى يُؤْمِنَّ } لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة, ولو بلغت من الحسن ما بلغت, وهذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة, في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }

{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وهذا عام لا تخصيص فيه.

ثم ذكر تعالى, الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة, لمن خالفهما في الدين فقال: { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي: في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم, فمخالطتهم على خطر منهم, والخطر ليس من الأخطار الدنيوية, إنما هو الشقاء الأبدي.

ويستفاد من تعليل الآية, النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع, لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى, وخصوصا, الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم, كالخدمة ونحوها.

وفي قوله: { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } دليل على اعتبار الولي [في النكاح].

{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أي: يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة, التي من آثارها, دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة, والتوبة النصوح, والعلم النافع, والعمل الصالح.

{ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ } أي: أحكامه وحكمها { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه, وعلم ما جهلوه, والامتثال لما ضيعوه.
ثم قال تعالى: { 222 - 223 } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض, وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض, كما كانت قبل ذلك, أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟.

فأخبر تعالى أن الحيض أذى, وإذا كان أذى, فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده عن الأذى وحده, ولهذا قال: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } أي: مكان الحيض, وهو الوطء في الفرج خاصة, فهذا هو المحرم إجماعا، وتخصيص الاعتزال في المحيض, يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها, في غير الوطء في الفرج جائز.

لكن قوله: { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج, وذلك فيما بين السرة والركبة, ينبغي تركه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض, أمرها أن تتزر, فيباشرها.

وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحُيَّض { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي: ينقطع دمهن, فإذا انقطع الدم, زال المنع الموجود وقت جريانه, الذي كان لحله شرطان, انقطاع الدم, والاغتسال منه.

فلما انقطع الدم, زال الشرط الأول وبقي الثاني, فلهذا قال: { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي: اغتسلن { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } أي: في القبل لا في الدبر, لأنه محل الحرث.

وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض, وأن انقطاع الدم, شرط لصحته.

ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده, وصيانة عن الأذى قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } أي: من ذنوبهم على الدوام { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث.

ففيه مشروعية الطهارة مطلقا, لأن الله يحب المتصف بها, ولهذا كانت الطهارة مطلقا, شرطا لصحة الصلاة والطواف, وجواز مس المصحف، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة, والأفعال الخسيسة.

{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل, لكونه موضع الحرث, وهو الموضع الذي يكون منه الولد.

وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر, لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك, ولعن فاعله.

{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } أي: من التقرب إلى الله بفعل الخيرات, ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته, ويجامعها على وجه القربة والاحتساب, وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أحوالكم, كونوا ملازمين لتقوى الله, مستعينين بذلك لعلمكم، { أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها.

ثم قال: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لم يذكر المبشر به ليدل على العموم, وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير, رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة.

وفيها محبة الله للمؤمنين, ومحبة ما يسرهم, واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.

{ 224 } { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

المقصود من اليمين، والقسم تعظيم المقسم به, وتأكيد المقسم عليه، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان, وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين, يتضمن ترك ما هو أحب إليه، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة, أي: مانعة وحائلة عن أن يبروا: أن يفعلوا خيرا, أو يتقوا شرا, أو يصلحوا بين الناس، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه, وحرم إقامته على يمينه، ومن حلف على ترك مستحب, استحب له الحنث، ومن حلف على فعل محرم, وجب الحنث, أو على فعل مكروه استحب الحنث، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث.

ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة, أنه " إذا تزاحمت المصالح, قدم أهمها " فهنا تتميم اليمين مصلحة, وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء, مصلحة أكبر من ذلك, فقدمت لذلك.

ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي: لجميع الأصوات { عَلِيمٌ } بالمقاصد والنيات, ومنه سماعه لأقوال الحالفين, وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته, وأن أعمالكم ونياتكم, قد استقر علمها عنده.

{ 225 } ثم قال تعالى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

أي: لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية, التي يتكلم بها العبد, من غير قصد منه ولا كسب قلب, ولكنها جرت على لسانه كقول الرجل في عرض كلامه: " لا والله " و " بلى والله " وكحلفه على أمر ماض, يظن صدق نفسه، وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب.

وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في الأقوال, كما هي معتبرة في الأفعال.

{ والله غفور } لمن تاب إليه, { حليم } بمن عصاه, حيث لم يعاجله بالعقوبة, بل حلم عنه وستر, وصفح مع قدرته عليه, وكونه بين يديه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:37 pm

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 226-252 )
وهي مدنية

{ 226 - 227 } { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وهذا من الأيمان الخاصة بالزوجة, في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقا، أو مقيدا، بأقل من أربعة أشهر أو أكثر.

فمن آلى من زوجته خاصة، فإن كان لدون أربعة أشهر, فهذا مثل سائر الأيمان, إن حنث كفر, وإن أتم يمينه, فلا شيء عليه, وليس لزوجته عليه سبيل, لأنه ملكه أربعة أشهر.

وإن كان أبدا, أو مدة تزيد على أربعة أشهر, ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه, إذا طلبت زوجته ذلك, لأنه حق لها، فإذا تمت أمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ, فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع, أجبر على الطلاق, فإن امتنع, طلق عليه الحاكم.

ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته, أحب إلى الله تعالى, ولهذا قال: { فَإِنْ فَاءُوا } أي: رجعوا إلى ما حلفوا على تركه, وهو الوطء. { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف, بسبب رجوعهم. { رَحِيمٌ } حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة, ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك, ورحيم بهم أيضا, حيث فاءوا إلى زوجاتهم, وحنوا عليهن ورحموهن.

{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } أي: امتنعوا من الفيئة, فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن, وعدم إرادتهم لأزواجهم, وهذا لا يكون إلا عزما على الطلاق، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة, وإلا أجبره الحاكم عليه أو قام به.

{ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه وعيد وتهديد, لمن يحلف هذا الحلف, ويقصد بذلك المضارة والمشاقة.

ويستدل بهذه الآية على أن الإيلاء, خاص بالزوجة, لقوله: { من نسائهم } وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة, لأنه بعد الأربعة, يجبر إما على الوطء, أو على الطلاق, ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا.

{ 228 } { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي: النساء اللاتي طلقهن أزواجهن { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أي: ينتظرن ويعتددن مدة { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } أي: حيض, أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك, مع أن الصحيح أن القرء, الحيض, ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ، منها: العلم ببراءة الرحم, إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء, علم أنه ليس في رحمها حمل, فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وحرم عليهن, كتمان ذلك, من حمل أو حيض, لأن كتمان ذلك, يفضي إلى مفاسد كثيرة، فكتمان الحمل, موجب أن تلحقه بغير من هو له, رغبة فيه واستعجالا لانقضاء العدة، فإذا ألحقته بغير أبيه, حصل من قطع الرحم والإرث, واحتجاب محارمه وأقاربه عنه, وربما تزوج ذوات محارمه، وحصل في مقابلة ذلك, إلحاقه بغير أبيه, وثبوت توابع ذلك, من الإرث منه وله, ومن جعل أقارب الملحق به, أقارب له، وفي ذلك من الشر والفساد, ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولو لم يكن في ذلك, إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه, وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة, وهي الزنا لكفى بذلك شرا.

وأما كتمان الحيض, بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة, ففيه من انقطاع حق الزوج عنها, وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر, كما ذكرنا، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض, لتطول العدة, فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه, بل هي سحت عليها محرمة من جهتين:

من كونها لا تستحقه, ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة, وربما راجعها بعد انقضاء العدة, فيكون ذلك سفاحا, لكونها أجنبية عنه, فلهذا قال تعالى: { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }

فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر, وإلا فلو آمن بالله واليوم الآخر, وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن, لم يصدر منهن شيء من ذلك.

وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة, عما تخبر به عن نفسها, من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها, كالحيض والحمل ونحوه

ثم قال تعالى: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة, أن يردوهن إلى نكاحهن { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } أي: رغبة وألفة ومودة.

ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح, فليسوا بأحق بردهن, فلا يحل لهم أن يراجعوهن, لقصد المضارة لها, وتطويل العدة عليها، وهل يملك ذلك, مع هذا القصد؟ فيه قولان.

الجمهور على أنه يملك ذلك, مع التحريم, والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح, لا يملك ذلك, كما هو ظاهر الآية الكريمة, وهذه حكمة أخرى في هذا التربص، وهي: أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها, فجعلت له هذه المدة, ليتروى بها ويقطع نظره.

وهذا يدل على محبته تعالى, للألفة بين الزوجين, وكراهته للفراق, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وهذا خاص في الطلاق الرجعي، وأما الطلاق البائن, فليس البعل بأحق برجعتها، بل إن تراضيا على التراجع, فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط.

ثم قال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي: وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة.

ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف, وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة, والأحوال, والأشخاص والعوائد.

وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة, والمعاشرة, والمسكن, وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف، فهذا موجب العقد المطلق.

وأما مع الشرط, فعلى شرطهما, إلا شرطا أحل حراما, أو حرم حلالا.

{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي: رفعة ورياسة, وزيادة حق عليها, كما قال تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }

ومنصب النبوة والقضاء, والإمامة الصغرى والكبرى, وسائر الولايات مختص بالرجال، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور, كالميراث ونحوه.

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: له العزة القاهرة والسلطان العظيم, الذي دانت له جميع الأشياء, ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه.

ويخرج من عموم هذه الآية, الحوامل, فعدتهن وضع الحمل، واللاتي لم يدخل بهن, فليس لهن عدة، والإماء, فعدتهن حيضتان, كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم، وسياق الآيات يدل على أن المراد بها الحرة.

{ 229 } { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

كان الطلاق في الجاهلية, واستمر أول الإسلام, يطلق الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها, طلقها, فإذا شارفت انقضاء عدتها, راجعها, ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا, فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم، فأخبر تعالى أن { الطَّلَاقَ } أي: الذي تحصل به الرجعة { مَرَّتَانِ } ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها, ويراجع رأيه في هذه المدة، وأما ما فوقها, فليس محلا لذلك, لأن من زاد على الثنتين, فإما متجرئ على المحرم, أو ليس له رغبة في إمساكها, بل قصده المضارة، فلهذا أمر تعالى الزوج, أن يمسك زوجته { بِمَعْرُوفٍ } أي: عشرة حسنة, ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم, وهذا هو الأرجح, وإلا يسرحها ويفارقها { بِإِحْسَانٍ } ومن الإحسان, أن لا يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها, لأنه ظلم, وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء, فلهذا قال: { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وهي المخالعة بالمعروف, بأن كرهت الزوجة زوجها, لخلقه أو خلقه أو نقص دينه, وخافت أن لا تطيع الله فيه، { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } لأنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة، وفي هذا مشروعية الخلع, إذا وجدت هذه الحكمة.

{ تِلْكَ } أي ما تقدم من الأحكام الشرعية { حُدُودُ اللَّهِ } أي: أحكامه التي شرعها لكم, وأمر بالوقوف معها، { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال, وتعدى منه إلى الحرام, فلم يسعه ما أحل الله؟

والظلم ثلاثة أقسام:

ظلم العبد فيما بينه وبين الله, وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك, وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق، فالشرك لا يغفره الله إلا بالتوبة, وحقوق العباد, لا يترك الله منها شيئا، والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك, تحت المشيئة والحكمة.

{ 230 - 231 } { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

يقول تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي: الطلقة الثالثة { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي: نكاحا صحيحا ويطؤها, لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحا, ويدخل فيه العقد والوطء, وهذا بالاتفاق.

ويشترط أن يكون نكاح الثاني, نكاح رغبة، فإن قصد به تحليلها للأول, فليس بنكاح, ولا يفيد التحليل، ولا يفيد وطء السيد, لأنه ليس بزوج، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها, ثم فارقها وانقضت عدتها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي: على الزوج الأول والزوجة { أَنْ يَتَرَاجَعَا } أي: يجددا عقدا جديدا بينهما, لإضافته التراجع إليهما, فدل على اعتبار التراضي.

ولكن يشترط في التراجع أن يظنا { أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } بأن يقوم كل منهما, بحق صاحبه، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق, وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة, فهنا لا جناح عليهما في التراجع.

ومفهوم الآية الكريمة, أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله, بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية, والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا, لأن جميع الأمور, إن لم يقم فيها أمر الله, ويسلك بها طاعته, لم يحل الإقدام عليها.

وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان, إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور, خصوصا الولايات, الصغار, والكبار, نظر في نفسه ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك, ووثق بها, أقدم, وإلا أحجم.

ولما بين تعالى هذه الأحكام العظيمة قال: { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: شرائعه التي حددها وبينها ووضحها.

{ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم هم المنتفعون بها, النافعون لغيرهم.

وفي هذا من فضيلة أهل العلم, ما لا يخفى, لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده, خاصا بهم, وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده, معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.

ثم قال تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } أي: طلاقا رجعيا بواحدة أو ثنتين.

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي: قاربن انقضاء عدتهن.

{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي: إما أن تراجعوهن, ونيتكم القيام بحقوقهن, أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار, ولهذا قال: { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } أي: مضارة بهن { لِتَعْتَدُوا } في فعلكم هذا الحلال, إلى الحرام، فالحلال: الإمساك بمعروف والحرام: المضارة، { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار.

{ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } لما بين تعالى حدوده غاية التبيين, وكان المقصود, العلم بها والعمل, والوقوف معها, وعدم مجاوزتها, لأنه تعالى لم ينزلها عبثا, بل أنزلها بالحق والصدق والجد, نهى عن اتخاذها هزوا, أي: لعبا بها, وهو التجرؤ عليها, وعدم الامتثال لواجبها، مثل استعمال المضارة في الإمساك, أو الفراق, أو كثرة الطلاق, أو جمع الثلات، والله من رحمته جعل له واحدة بعد واحدة, رفقا به وسعيا في مصلحته.

{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } عموما باللسان ثناء وحمدا، وبالقلب اعترافا وإقرارا, وبالأركان بصرفها في طاعة الله، { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } أي: السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها, وطرق الشر وحذركم إياها, وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه, وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.

وقيل: المراد بالحكمة أسرار الشريعة, فالكتاب فيه, الحكم، والحكمة فيها, بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه، وكلا المعنيين صحيح، ولهذا قال { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي: بما أنزل عليكم, وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة, أسرار الشريعة, لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة, والترغيب, أو الترهيب, فالحكم به, يزول الجهل، والحكمة مع الترغيب, يوجب الرغبة، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } في جميع أموركم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلهذا بيّن لكم هذه الأحكام بغاية الإحكام والإتقان التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان, [فله الحمد والمنة].

{ 232 } { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة, وأراد زوجها أن ينكحها, ورضيت بذلك, فلا يجوز لوليها, من أب وغيره; أن يعضلها; أي: يمنعها من التزوج به حنقا عليه; وغضبا; واشمئزازا لما فعل من الطلاق الأول.

وذكر أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإيمانه يمنعه من العضل، فإن ذلك أزكى لكم وأطهر وأطيب مما يظن الولي أن عدم تزويجه هو الرأي: واللائق وأنه يقابل بطلاقه الأول بعدم التزويج له كما هو عادة المترفعين المتكبرين.

فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه, فالله { يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم, مريد لها, قادر عليها, ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره.

وفي هذه الآية, دليل على أنه لا بد من الولي في النكاح, لأنه نهى الأولياء عن العضل, ولا ينهاهم إلا عن أمر, هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق.

ثم قال تعالى:

{ 233 } { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

هذا خبر بمعنى الأمر, تنزيلا له منزلة المتقرر, الذي لا يحتاج إلى أمر بأن { يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ }



ولما كان الحول, يطلق على الكامل, وعلى معظم الحول قال: { كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } فإذا تم للرضيع حولان, فقد تم رضاعه وصار اللبن بعد ذلك, بمنزلة سائر الأغذية, فلهذا كان الرضاع بعد الحولين, غير معتبر, لا يحرم.

ويؤخذ من هذا النص, ومن قوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, وأنه يمكن وجود الولد بها.

{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } أي: الأب { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وهذا شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة, فإن على الأب رزقها, أي: نفقتها وكسوتها, وهي الأجرة للرضاع.

ودل هذا, على أنها إذا كانت في حباله, لا يجب لها أجرة, غير النفقة والكسوة, وكل بحسب حاله, فلهذا قال: { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } فلا يكلف الفقير أن ينفق نفقة الغني, ولا من لم يجد شيئا بالنفقة حتى يجد، { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي: لا يحل أن تضار الوالدة بسبب ولدها, إما أن تمنع من إرضاعه, أو لا تعطى ما يجب لها من النفقة, والكسوة أو الأجرة، { وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } بأن تمتنع من إرضاعه على وجه المضارة له, أو تطلب زيادة عن الواجب, ونحو ذلك من أنواع الضرر.

ودل قوله: { مَوْلُودٌ لَهُ } أن الولد لأبيه, لأنه موهوب له, ولأنه من كسبه، فلذلك جاز له الأخذ من ماله, رضي أو لم يرض, بخلاف الأم.

وقوله: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } أي: على وارث الطفل إذا عدم الأب, وكان الطفل ليس له مال, مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين, على القريب الوارث الموسر، { فَإِنْ أَرَادَا } أي: الأبوان { فِصَالًا } أي: فطام الصبي قبل الحولين، { عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا } بأن يكونا راضيين { وَتَشَاوُرٍ } فيما بينهما, هل هو مصلحة للصبي أم لا؟ فإن كان مصلحة ورضيا { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في فطامه قبل الحولين، فدلت الآية بمفهومها, على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر, أو لم يكن مصلحة للطفل, أنه لا يجوز فطامه.

وقوله: { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ } أي: تطلبوا لهم المراضع غير أمهاتهم على غير وجه المضارة { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي: للمرضعات, { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فمجازيكم على ذلك بالخير والشر.




{ 234 } { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أي: إذا توفي الزوج, مكثت زوجته, متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوبا، والحكمة في ذلك, ليتبين الحمل في مدة الأربعة, ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس، وهذا العام مخصوص بالحوامل, فإن عدتهن بوضع الحمل، وكذلك الأمة, عدتها على النصف من عدة الحرة, شهران وخمسة أيام.

وقوله: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي: انقضت عدتهن { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } أي: من مراجعتها للزينة والطيب، { بِالْمَعْرُوفِ } أي: على وجه غير محرم ولا مكروه.

وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة, على المتوفى عنها زوجها, دون غيرها من المطلقات والمفارقات, وهو مجمع عليه بين العلماء.

{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: عالم بأعمالكم, ظاهرها وباطنها, جليلها وخفيها, فمجازيكم عليها.

وفي خطابه للأولياء بقوله: { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } دليل على أن الولي ينظر على المرأة, ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب, وأنه مخاطب بذلك, واجب عليه.

{ 235 } { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

هذا حكم المعتدة من وفاة, أو المبانة في الحياة، فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة, وهو المراد بقوله: { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } وأما التعريض, فقد أسقط تعالى فيه الجناح.

والفرق بينهما: أن التصريح, لا يحتمل غير النكاح, فلهذا حرم, خوفا من استعجالها, وكذبها في انقضاء عدتها, رغبة في النكاح، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم, وقضاء لحق زوجها الأول, بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها.

وأما التعريض, وهو الذي يحتمل النكاح وغيره, فهو جائز للبائن كأن يقول لها: إني أريد التزوج, وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك, ونحو ذلك, فهذا جائز لأنه ليس بمنزلة الصريح, وفي النفوس داع قوي إليه.

وكذلك إضمار الإنسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها, إذا انقضت، ولهذا قال: { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } هذا التفصيل كله في مقدمات العقد.

وأما عقد النكاح فلا يحل { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } أي: تنقضي العدة.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } أي: فانووا الخير, ولا تنووا الشر, خوفا من عقابه ورجاء لثوابه.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لمن صدرت منه الذنوب, فتاب منها, ورجع إلى ربه { حَلِيمٌ } حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم, مع قدرته عليهم.

{ 236 } { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ }

أي: ليس عليكم يا معشر الأزواج جناح وإثم, بتطليق النساء قبل المسيس, وفرض المهر, وإن كان في ذلك كسر لها, فإنه ينجبر بالمتعة، فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئا من المال, جبرا لخواطرهن. { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ } أي: المعسر { قَدَرُهُ }

وهذا يرجع إلى العرف, وأنه يختلف باختلاف الأحوال ولهذا قال: { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ } فهذا حق واجب { عَلَى الْمُحْسِنِينَ } ليس لهم أن يبخسوهن.

فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن, وتعلق قلوبهن, ثم لم يعطوهن ما رغبن فيه, فعليهم في مقابلة ذلك المتعة.

فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي, وأدله على حكمة شارعه ورحمته" ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟" فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر.

ثم ذكر حكم المفروض لهن فقال:

{ 237 } { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

أي: إذا طلقتم النساء قبل المسيس, وبعد فرض المهر, فللمطلقات من المهر المفروض نصفه, ولكم نصفه.

هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة, بأن تعفو عن نصفها لزوجها, إذا كان يصح عفوها, { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وهو الزوج على الصحيح لأنه الذي بيده حل عقدته؛ ولأن الولي لا يصح أن يعفو عن ما وجب للمرأة, لكونه غير مالك ولا وكيل.

ثم رغب في العفو, وأن من عفا, كان أقرب لتقواه, لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر, ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف, وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة, لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب, وهو: أخذ الواجب, وإعطاء الواجب. وإما فضل وإحسان, وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق, والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة, ولو في بعض الأوقات, وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة, أو مخالطة, فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.

ثم قال تعالى: { 238 - 239 } { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }

يأمر بالمحافظة على الصلوات عمومًا وعلى الصلاة الوسطى، وهي العصر خصوصًا، والمحافظة عليها أداؤهابوقتها وشروطها وأركانها وخشوعها وجميع ما لها من واجب ومستحب، وبالمحافظة على الصلوات تحصل المحافظة على سائر العبادات، وتفيد النهي عن الفحشاء والمنكر خصوصًا إذا أكملها كما أمر بقوله { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } أي: ذليلين خاشعين، ففيه الأمر بالقيام والقنوت والنهي عن الكلام، والأمر بالخشوع، هذا مع الأمن والطمأنينة.

{ فَإِنْ خِفْتُمْ } لم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم وسبع، وغير ذلك من أنواع المخاوف، أي: إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة فصلوها { رِجَالًا } أي: ماشين على أقدامكم، { أَوْ رُكْبَانًا } على الخيل والإبل وغيرها، ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل بل أوجب من صلاتها مطمئنا خارج الوقت { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } أي: زال الخوف عنكم { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلاة على كمالها وتمامها { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } فإنها نعمة عظيمة ومنة جسيمة، تقتضي مقابلتها بالذكر والشكر ليبقي نعمته عليكم ويزيدكم عليها.


ثم قال تعالى: { 240 } { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي: الأزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا فعليهم أن يوصوا { وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } أي: يوصون أن يلزمن بيوتهم مدة سنة لا يخرجن منها { فإن خرجن } من أنفسهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء { فيما فعلن في أنفسهم من معروف والله عزيز حكيم } أي: من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك وأكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة بما قبلها وهي قوله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقيل لم تنسخها بل الآية الأولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة، وما زاد على ذلك فهي مستحبة ينبغي فعلها تكميلا لحق الزوج، ومراعاة للزوجة، والدليل على أن ذلك مستحب أنه هنا نفى الجناح عن الأولياء إن خرجن قبل تكميل الحول، فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج عنهم.

{ 241 - 242 } { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

أي: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق، جبرا لخاطرها وأداء لبعض حقوقها، وهذه المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس، والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم، هذا أحسن ما قيل فيها، وقيل إن المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه الآية، ولكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيّد، وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة.

ولما بيّن تعالى هذه الأحكام العظيمة المشتملة على الحكمة والرحمة امتن بها على عباده فقال: { كذلك يبين الله لكم آياته } أي: حدوده، وحلاله وحرامه والأحكام النافعة لكم، لعلكم تعقلونها فتعرفونها وتعرفون المقصود منها، فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها، ثم قال تعالى:

{ 243 - 245 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم، بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره، يقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت، ولكن لا يغني حذر عن قدر، { فقال الله لهم موتوا } فماتوا { ثم } إن الله تعالى { أحياهم } إما بدعوة نبي أو بغير ذلك، رحمة بهم ولطفا وحلما، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى، ولهذا قال: { إن الله لذو فضل } أي: عظيم { على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون } فلا تزيدهم النعمة شكرا، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم.

ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله، وهو قتال الأعداء الكفار لإعلاء كلمة الله ونصر دينه، فقال: { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } أي: فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله، واعلموا أنه لا يفيدكم القعود عن القتال شيئا، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم، فليس الأمر كذلك، ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا الأمر، فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم، بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا، فاعلموا أنكم كذلك.

ولما كان القتال فى سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه، وسماه قرضا فقال: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات، خصوصا في الجهاد، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى، { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بحسب حالة المنفق، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله: { والله يقبض ويبسط } أي: يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا، فلهذا قال: { وإليه ترجعون } فيجازيكم بأعمالكم.

ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله. وفيها: الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار. وفيها: الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه، من تسميته قرضا، ومضاعفته، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.

{ 246 -248 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

يقص تعالى على نبيه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء، وخص الملأ بالذكر، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلام فقالوا له { ابعث لنا ملكا } أي: عيِّن لنا ملكا { نقاتل في سبيل الله } ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم، كما جرت عادة القبائل أصحاب البيوت، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة { قال } لهم نبيهم { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } أي: لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم، فقالوا: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم { فلما كتب عليهم القتال تولوا } فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن { إلا قليلا منهم } فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله، فلهذا قال: { والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم } مجيبا لطلبهم { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول والانقياد وترك الاعتراض، ولكن أبوا إلا أن يعترضوا، فقالوا: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } أي: كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه. ومع هذا فهو فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الأموال، وهذا بناء منهم على ظن فاسد، وهو أن الملك ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال، ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها، فلهذا قال لهم نبيهم: { إن الله اصطفاه عليكم } فلزمكم الانقياد لذلك { وزاده بسطة في العلم والجسم } أي: فضله عليكم بالعلم والجسم، أي: بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك، لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب، حصل بذلك الكمال، ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر، فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي، حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع، قوة على غير حكمة، ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي الذي لا ينفذه شيئا { والله واسع } الفضل كثير الكرم، لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد، ولا شريفا عن وضيع، ولكنه مع ذلك { عليم } بمن يستحق الفضل فيضعه فيه، فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك متوفرة فيه، وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ليس له راد، ولا لإحسانه صاد.

ثم ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها وهي إتيان التابوت الذي قد فقدوه زمانا طويلا وفي ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم، وتطمئن لها خواطرهم، وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فأتت به الملائكة حاملة له وهم يرونه عيانا.

{ 249-252 } { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ }

أي: لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني } فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته { ومن لم يطعمه } أي: لم يشرب منه فإنه مني { إلا من اغترف غرفة بيده } فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله، وتضرعا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم، فلهذا قال تعالى: { فلما جاوزه } أي: النهر { هو } أي: طالوت { والذين آمنوا معه } وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا... قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا أي: قال كثير منهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لكثرتهم وعَددهم وعُددهم { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.

ولهذا لما برزوا لجالوت وجنوده { قالوا } جميعهم { ربنا أفرغ علينا صبرا } أي: قو قلوبنا، وأوزعنا الصبر، وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار، وانصرنا على القوم الكافرين.

من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا، فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك، ونصرهم عليهم { فهزموهم بإذن الله وقتل داود } عليه السلام، وكان مع جنود طالوت، { جالوت } أي: باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره { وآتاه الله } أي: آتى الله داود { الملك والحكمة } أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال { وعلمه مما يشاء } من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، فجمع الله له الملك والنبوة، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه { ولكن الله ذو فضل على العالمين } حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها.

ثم قال تعالى: { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } أي: بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور { وإنك لمن المرسلين } فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور، فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم، ومنها: أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب. ومنها: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها. ومنها: أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا، والثاني في قوله: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله } ومنها: أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز. ومنها: أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:38 pm

تفسير الجزء الثالث

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 253-286 )
وهي مدنية

{ 253 } { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه { وأيدناه بروح القدس } أي: بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } الموجبة للاجتماع على الإيمان { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة، فإذا وجدت اضمحل كل سبب، وزال كل موجب، فلهذا قال { ولكن الله يفعل ما يريد } فإرادته غالبة ومشيئته نافذة، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية.

فائدة: كما يجب على المكلف معرفته بربه، فيجب عليه معرفته برسله، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة، منها: أنهم رجال لا نساء، من أهل القرى لا من أهل البوادي، وأنهم مصطفون مختارون، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف، وأن الله تعالى خصهم بوحيه، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله، ودلائل هذه الجمل كثيرة، من تدبر القرآن تبين له الحق، ثم قال تعالى:

{ 254 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله، فلهذا قال تعالى: { والكافرون هم الظالمون } وهذا من باب الحصر، أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } ثم قال تعالى:

{ 255 } { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }

هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن { لا إله إلا هو } أي: لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة، وقوله: { الحي القيوم } هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك، والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري، ولهذا قال بعض المحققين: إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ومن تمام حياته وقيوميته أن { لا تأخذه سنة ولا نوم } والسنة النعاس { له ما في السماوات وما في الأرض } أي: هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي: لا أحد يشفع عنده بدون إذنه، فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن، ثم قال { يعلم ما بين أيديهم } أي: ما مضى من جميع الأمور { وما خلفهم } أي: ما يستقبل منها، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى، ولهذا قال: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض } وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب، فلهذا قال: { ولا يؤوده } أي: يثقله { حفظهما وهو العلي } بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته { العظيم } الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، ثم قال تعالى:

{ 256 - 257 } { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.

ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال: { الله ولي الذين آمنوا } وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }

{ 258 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

يقول تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } أي: إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك، وما حمله على ذلك إلا { أن آتاه الله الملك } فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل الله، فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } أي: هو المنفرد بأنواع التصرف، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة، فقال ذلك المحاج: { أنا أحيي وأميت } ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت، لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه، فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه، فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلا عن كونه حجة، اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم: { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } أي: عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر { فأت بها من المغرب } وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه، فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله، ولا قادحا يقدح في سبيله { بهت الذي كفر } أي: تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه، فإنه مغلوب مقهور، فلذلك قال تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين } بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال، قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا، وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور، ثم صورت الأصنام على صورها، فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة، ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته، ويعبد من دونه، وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة، لا تصرف لها بنفسها بوجه ما، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته، فهي مربوبة مسخرة مدبرة، لا إله يعبد من دون الله. " من مفتاح دار السعادة " ثم قال تعالى:

{ 259 } { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء، فقال: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } أي: قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها، فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى، فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره، وكان معه طعام وشراب، { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم } استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته، فقيل له { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } أي: لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا { وانظر إلى حمارك } وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه، وتفرقت أوصاله { ولنجعلك آية للناس } على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم، لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي: ندخل بعضها في بعض، ونركب بعضها ببعض { ثم نكسوها لحما } فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى، { فلما تبين له } ذلك وعلم قدرة الله تعالى { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه أحدها قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك، والثاني: أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره، ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها، ولا في السياق ما يدل على ذلك، ولا في ذلك كثير فائدة، ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها؟! وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله، والثالث في قوله: { فلما تبين له } أي: تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه، والله أعلم. ثم قال تعالى:

{260 } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين، فلهذا قال الله له: { أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان، فقال له ربه { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك } أي: ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك. { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي: من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء { ثم ادعهن يأتينك سعيا } أي: تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت السماوات والأرض الذي أراه الله إياه في قوله { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } ثم قال: { واعلم أن الله عزيز حكيم } أي: ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته، لا يفعل شيئا عبثا، ثم قال تعالى:

{ 261 } { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في قوله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } وهنا قال: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي: في طاعته ومرضاته، وأولاها إنفاقها في الجهاد في سبيله { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل، الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته، فيقوى شاهد الإيمان مع شاهد العيان، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة، { والله يضاعف } هذه المضاعفة { لمن يشاء } أي: بحسب حال المنفق وإخلاصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها، ويحتمل أن يكون { والله يضاعف } أكثر من هذه المضاعفة { لمن يشاء } فيعطيهم أجرهم بغير حساب { والله واسع } الفضل، واسع العطاء، لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة، لأن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته، ومع هذا فهو { عليم } بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته.

{ 262 } { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }

أي: الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته، ولا أذية له قولية أو فعلية، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات.

{ قول معروف } أي: تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له { ومغفرة } لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره، ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنّة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم، { والله غني } عنها، ومع هذا فهو { حليم } على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه، فإذا علم تعالى أنه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلات أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه.

{ 264 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى ففيه أن المن والأذى يبطل الصدقة، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال تعالى: { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات، وفي هذه الآية مع قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى، وقوله: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } أي: أنتم وإن قصدتم بذلك وجه الله في ابتداء الأمر، فإن المنة والأذى مبطلان لأعمالكم، فتصير أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة، فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور، فمثله المطابق لحاله { كمثل صفوان } وهو الحجر الأملس الشديد { عليه تراب فأصابه وابل } أي: مطر غزير { فتركه صلدا } أي: ليس عليه شيء من التراب، فكذلك حال هذا المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا { لا يقدرون على شيء } من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية، فلهذا قال: { والله لا يهدي القوم الكافرين }

{265 } { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى: { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } أي: قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه { وتثبيتا من أنفسهم } أي: صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد، وتثبيتا من أنفسهم، فمثل نفقة هؤلاء { كمثل جنة } أي: كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة { بربوة } أي: محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس، فـ { أصابها } أي: تلك الجنة التي بربوة { وابل } وهو المطر الغزير { فآتت أكلها ضعفين } أي: تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها { فإن لم يصبها وابل فطل } أي: مطر قليل يكفيها لطيب منبتها، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها، فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد، ولحصل الاقتتال عنده، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه، وتوجهت همم عزائمه إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات، ولهذا قال تعالى: { والله بما تعملون بصير } فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل، فيجازيه عليه أتم الجزاء ثم قال تعالى:

{ 266 } { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى، وتلك الجنة فيها الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له، بل هم كل عليه، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه.

والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما، فلهذا أمر تعالى بالتفكر وحثَّ عليه، فقال: { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }

{ 267 - 268 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب، ومما أخرج لهم من الأرض فكما منَّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه شكرا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرا لأموالكم، واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم، ولا تيمموا الرديء الذي لا ترغبونه ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة { واعلموا أن الله غني حميد } فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم، ومع هذا فهو حميد على ما يأمركم به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة، فعليكم أن تمتثلوا أوامره لأنها قوت القلوب وحياة النفوس ونعيم الأرواح، وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالإمساك، ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم، وليس هذا نصحا لكم، بل هذا غاية الغش { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا يضركم، ومع هذا فهو { يعدكم مغفرة } لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم { وفضلا } وإحسانا إليكم في الدنيا والآخرة، من الخلف العاجل، وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر، وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة، وليس هذا عظيما عليه لأنه { واسع } الفضل عظيم الإحسان { عليم } بما يصدر منكم من النفقات قليلها وكثيرها، سرها وعلنها، فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه، فلينظر العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل، فقد تضمنت هاتان الآيتان أمورا عظيمة منها: الحث على الإنفاق، ومنها: بيان الأسباب الموجبة لذلك، ومنها: وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها، لأنها داخلة في قوله: { من طيبات ما كسبتم } ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار والمعادن، ومنها: أن الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الأرض، لقوله { أخرجنا لكم } فمن أخرجت له وجبت عليه ومنها: أن الأموال المعدة للاقتناء من العقارات والأواني ونحوها ليس فيها زكاة، وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت مجهولة، أو عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه، ليس فيها زكاة، لأن الله أوجب النفقة من الأموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الأرض، وأموال التجارة مواساة من نمائها، وأما الأموال التي غير معدة لذلك ولا مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى، ومنها: أن الرديء ينهى عن إخراجه ولا يجزئ في الزكاة ثم قال تعالى:

{ 269 } { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }

لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك، ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة، والعقول التامة، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد، وتركوا طاعة رب العباد، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب، فلهذا قال تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }

{ 270 } { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }

وهذا فيه المجازاة على النفقات، واجبها ومستحبها، قليلها وكثيرها، التي أمر الله بها، والنذور التي ألزمها المكلف نفسه، وإن الله تعالى يعلمها فلا يخفى عليه منها شيء، ويعلم ما صدرت عنه، هل هو الإخلاص أو غيره، فإن صدرت عن إخلاص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم والثواب الجسيم، وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف ما أوجبه على نفسه من المنذورات، أو قصد بذلك رضى المخلوقات، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه، واستحق العقوبة البليغة، ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره، فلهذا قال: { وما للظالمين من أنصار }

{ 271 } { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أي: { إن تبدوا الصدقات } فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله { فنعما هي } أي: فنعم الشيء { هي } لحصول المقصود بها { وإن تخفوها } أي: تسروها { وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية، وأما إذا لم تؤت الصدقات الفقراء فمفهوم الآية أن السر ليس خيرا من العلانية، فيرجع في ذلك إلى المصلحة، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه، فهو أفضل من الإسرار، ودل قوله: { وتؤتوها الفقراء } على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين، ولا يعطي محتاجا وغيره أحوج منه، ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك حصول الثواب قال: { ويكفر عنكم من سيئاتكم } ففيه دفع العقاب { والله بما تعملون خبير } من خير وشر، قليل وكثير والمقصود من ذلك المجازاة.

{ 272 - 274 } { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس عليك هدي الخلق، وإنما عليك البلاغ المبين، والهداية بيد الله تعالى، ففيها دلالة على أن النفقة كما تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد، فلهذا قال: { وما تنفقوا من خير } أي: قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر { فلأنفسكم } أي: نفعه راجع إليكم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله تعالى، لأن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } يوم القيامة تستوفون أجوركم { وأنتم لا تظلمون } أي: تنقصون من أعمالكم شيئا ولا مثقال ذرة، كما لا يزاد في سيئاتكم.

ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر، والثاني قوله: { أحصروا في سبيل الله } أي: قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره، فهم مستعدون لذلك محبوسون له، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال: { لا يستطيعون ضربا في الأرض } أي: سفرا للتكسب، الرابع قوله: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم. الخامس: أنه قال: { تعرفهم بسيماهم } أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله: { يحسبهم الجاهل أغنياء } فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله: { لا يسألون الناس إلحافا } أي: لا يسألونهم سؤال إلحاف، أي: إلحاح، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات، وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر، فلهذا قال: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }

ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الأوقات على جميع الأحوال فقال: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي: طاعته وطريق مرضاته، لا في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم { بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم } أي: أجر عظيم من خير عند الرب الرحيم { ولا خوف عليهم } إذا خاف المقصرون { ولا هم يحزنون } إذا حزن المفرطون، ففازوا بحصول المقصود المطلوب، ونجوا من الشرور والمرهوب، ولما كمل تعالى حالة المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر حالة الظالمين المسيئين إليهم غاية الإساءة فقال:

{ 275 - 281 } { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان: ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.

ثم قال تعالى: { يمحق الله الربا } أي: يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا، فيكون سببا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار { ويربي الصدقات } أي: ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي، فجوزي بذهاب ماله، والمحسن إليهم بأنواع الإحسان ربه أكرم منه، فيحسن عليه كما أحسن على عباده { والله لا يحب كل كفار } لنعم الله، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات، ولا يسلم منه ومن شره عباد الله { أثيم } أي: قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته.

لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم، وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي: المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له، وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر { وإن تبتم } عن الربا { فلكم رء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:40 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 1-25 )
وهي مدنية

نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ 1 - 6 } { الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي لا تتم ولا تكمل الحياة إلا بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام والعز الذي لا يرام { القيوم } الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد، فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم، تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح.

ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب، الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون، وهي شاهدة له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم، ثم قال تعالى { وأنزل التوراة } أي: على موسى { والإنجيل } على عيسى.

{ من قبل } إنزال القرآن { هدى للناس } الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله { وأنزل الفرقان } أي: الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد والمطالب، وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى بقيت الأحكام جلية ظاهرة، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة لمن لم يؤمن به وبآياته، فلهذا قال { إن الذين كفروا بآيات الله } أي: بعد ما بينها ووضحها وأزاح العلل { لهم عذاب شديد } لا يقدر قدره ولا يدرك وصفه { والله عزيز } أي: قوي لا يعجزه شيء { ذو انتقام } ممن عصاه.

{ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } وهذا فيه تقرير إحاطة علمه بالمعلومات كلها، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها، ومن جملة ذلك الأجنة في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين، ولا ينالها علمهم، وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير، ويقدرها بكل تقدير، فلهذا قال { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء }

{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } من كامل الخلق وناقصه، وحسن وقبيح، وذكر وأنثى { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتعينها، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم، وإثبات الشرائع الكبار، وأنها رحمة وهداية للناس، وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره، وعقوبة من لم يهتد بها، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته.

{ 7 - 9 } { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }

القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله { منه آيات محكمات } أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم الكتاب } أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } للمفسرين في الوقوف على { الله } من قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها { والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على { إلا الله } لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله { الرحمن على العرش [استوى ] } فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف { الراسخون } على { الله } فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل } من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال { وما يذكر } أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا { أولوا الألباب } أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة.

ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي: لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين { وهب لنا من لدنك رحمة } أي: عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات { إنك أنت الوهاب } أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.

{ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد } فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا، وعارفا مدققا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله { يقولون آمنا به كل من عند ربنا } الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل، ثم قال تعالى:

{ 10 - 13 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }

يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله، الجاحدين بدينه وكتابه، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم، ويقولون { نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون { وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن } وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار، أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدا، وهذه الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا، سنته الجارية في الأمم السابقة.‏

كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتاة الطغاة أرباب الأموال والجنود لما كذبوا بآيات الله وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا، أخذهم الله بذنوبهم عدلا منه لا ظلما والله شديد العقاب على من أتى بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد مراتبها

ثم قال تعالى { قل } يا محمد { للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار، وقد وقع كما أخبر تعالى، فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى، وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين إلى يوم القيامة، ففي هذا عبرة وآية من آيات القرآن المشاهدة بالحس والعيان، وأخبر تعالى أن الكفار مع أنهم مغلوبون في الدار أنهم محشورون ومجموعون يوم القيامة لدار البوار، وهذا هو الذي مهدوه لأنفسهم فبئس المهاد مهادهم، وبئس الجزاء جزاؤهم.

{ قد كان لكم آية } أي: عبرة عظيمة { في فئتين التقتا } وهذا يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وأخرى كافرة } أي: كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فجمع الله بين الطائفتين في بدر، وكان المشركون أضعاف المؤمنين، فلهذا قال { يرونهم مثليهم رأي العين } أي: يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة، تبلغ المضاعفة وتزيد عليها، وأكد هذا بقوله { رأي العين } فنصر الله المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم، وقتلوا صناديدهم، وأسروا كثيرا منهم، وما ذاك إلا لأن الله ناصر من نصره، وخاذل من كفر به، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار، أي: أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة، على أن الطائفة المنصورة معها الحق، والأخرى مبطلة، وإلا فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة والعدد والعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من أنواع المحالات، ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالأبصار سبب أعظم منه لا يدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته، وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.

{ 14 - 17 } { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }

يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي: وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودن منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها { ذلك متاع الحياة الدنيا } فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم. وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما { والله بصير بالعباد } أي: عالم بما فيهم من الأوصاف الحسنة والأوصاف القبيحة، وما هو اللائق بأحوالهم، يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء. فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وكان من دعائهم أن قالوا:

(16 - 17) { ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } توسلوا بمنة الله عليهم بتوفيقهم للإيمان أن يغفر لهم ذنوبهم ويقيهم شر آثارها وهو عذاب النار، ثم فصل أوصاف التقوى.

فقال { الصابرين } أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، { والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم { والمنفقين } مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم { والمستغفرين بالأسحار } لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم، حالا ولا مقاما، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم، ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر، قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون ربهم. فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها، ووصف أهل الجنة وهم المتقون، ثم فصل خصال التقوى، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه، هل هو من أهل الجنة أم لا؟


{ 18 - 20 } { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }

هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم، أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد، وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله، وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه، فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به، وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه، والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين، بمنزلة المشاهدة للبصر، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من أولي العلم. وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة، منها: أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس، ومنها: أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا، ومنها: أنه جعلهم أولي العلم، فأضافهم إلى العلم، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته، ومنها: أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به، فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنها: أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه، ولما قرر توحيده قرر عدله، فقال: { قائمًا بالقسط } أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه، وفيما خلقه وقدره، ثم أعاد تقرير توحيده فقال { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } واعلم أن هذا الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الأدلة النقلية والأدلة العقلية، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس، فأما الأدلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله، من الأمر به وتقريره، ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم، وذم الشرك وأهله، فهو من الأدلة النقلية على ذلك، حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه، وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها، فمن أعظمها: الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه. ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا، ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك: ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة والقهر، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية، فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون، ومن الأدلة العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه، من الإكرام لأهل التوحيد، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير دافعا لكل شر ديني ودنيوي، وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم، قال عقب كل قصة: { إن في ذلك لآية } أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة، وتركه هو الموجب للهلاك، فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم، وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء.

ولما قرر أنه الإله الحق المعبود، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله، وحثت عليها كتبه، وهو الذي لا يقبل من أحد دين سواه، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك، وهذا هو دين الرسل كلهم، وكل من تابعهم فهو على طريقهم، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله، بغيا بينهم، وظلما وعدوانا من أنفسهم، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف، وهذا من كفرهم، فلهذا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } فيجازي كل عامل بعمله، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته، فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم، ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين الإسلام

عليه أن يقول لهم: قد { أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } أي: أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين الإسلام، وجزمنا ببطلانه، ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم، وتجديد لدينكم عند ورود الشبهات، وحجة على من اشتبه عليه الأمر، لأنه قد تقدم أن الله استشهد على توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم، وسيد أهل العلم وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعده أتباعه على اختلاف مراتبهم وتفاوت درجاتهم، فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لأحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم، فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة، وقام به أكمل الخلق وأعلمهم، حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح، وعرف أن ما سواه من الأديان باطلة، فلهذا قال { وقل للذين أوتوا الكتاب } من النصارى واليهود { والأميين } مشركي العرب وغيرهم { أأسلمتم فإن أسلموا } أي: بمثل ما أمنتم به { فقد اهتدوا } كما اهتديتم وصاروا إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم { وإن تولوا } عن الإسلام ورضوا بالأديان التي تخالفه { فإنما عليك البلاغ } فقد وجب أجرك على ربك، وقامت عليهم الحجة، ولم يبق بعد هذا إلا مجازاتهم بالعقاب على جرمهم، فلهذا قال { والله بصير بالعباد }


{ 21 - 22 } { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }

هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، أشد الناس جرما وأي: جرم أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له، فقابلوهم شر مقابلة، فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها المؤلم للأبدان والقلوب والأرواح.

وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم، وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة، بل قد أيسوا من كل خير، وحصل لهم كل شر وضير، وهذه الحالة صفة اليهود ونحوهم، قبحهم الله ما أجرأهم على الله وعلى أنبيائه وعباده الصالحين.

{ 23 - 25 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم، وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد، كما قال تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } والسبب الذي غر أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو قولهم { لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون }

افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن المحارم، لأن أنفسهم منتهم وغرتهم أن مآلهم إلى الجنة، وكذبوا في ذلك، فإن هذا مجرد كذب وافتراء، وإنما مآلهم شر مآل، وعاقبتهم عاقبة وخيمة، فلهذا قال تعالى { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه }

أي: كيف يكون حالهم ووخيم ما يقدمون عليه، حالة لا يمكن وصفها ولا يتصور قبحها لأن ذلك اليوم يوم توفية النفوس ما كسبت ومجازاتها بالعدل لا بالظلم، وقد علم أن ذلك على قدر الأعمال، وقد تقدم من أعمالهم ما يبين أنهم من أشد الناس عذابا.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:41 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 26-58 )
وهي مدنية

{ 26 - 27 } { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها، فقال: { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع، قال الله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور، وقال تعالى: { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الآية وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم، ثم قال تعالى: { وتعز من تشاء } بطاعتك { وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك

{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي: تدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته { وتخرج الحي من الميت } كالفرخ من البيضة، وكالشجر من النوى، وكالزرع من بذره، وكالمؤمن من الكافر { وتخرج الميت من الحي } كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر، وكالحب من الزرع، وكالكافر من المؤمن، وهذا أعظم دليل على قدرة الله، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا، فخلقه تعالى الأضداد، والضد من ضده بيان أنها مقهورة { وترزق من تشاء بغير حساب } أي: ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث لا يحتسب ولا يكتسب، ثم قال تعالى:

{ 28 - 30 } { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد على ذلك فقال: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفؤا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب الكافرين، قال تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم والركون إليهم، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين. قال الله تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاة }

أي: تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية. ثم قال تعالى: { ويحذركم الله نفسه } أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير } أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة، ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا، ولما في السماء والأرض عموما، وعن كمال قدرته، ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محلا لكل فكر رديء، بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب، أو سنة من أحاديث رسول الله، أو تصور وبحث في علم ينفعه، أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه، أو نصح لعباد الله، وفي ضمن أخبار الله عن علمه وقدرته الإخبار بما هو لازم ذلك من المجازاة على الأعمال، ومحل ذلك يوم القيامة، فهو الذي توفى به النفوس بأعمالها فلهذا قال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا }

أي: كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة، كما قال تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره } والخير: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا } أي: مسافة بعيدة، لعظم أسفها وشدة حزنها، فليحذر العبد من أعمال السوء التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا } { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } فوالله لترك كل شهوة ولذة وان عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح، ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر، فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا، ويحجم عن ما يضره عاجلا وآجلا، ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب، فقال { ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد } فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام، حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه.

{ 31 } { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال { قل إن كنتم تحبون الله } أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لابد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص.


{ 32 } { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }

وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الأوامر، وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الإيمان والتوحيد، وما هو من فروع ذلك من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما نهى عنه، لأن اجتنابه امتثالا لأمر الله هو من طاعته، فمن أطاع الله ورسوله، فأولئك هم المفلحون { فإن تولوا } أي: أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فليس ثم أمر يرجعون إليه إلا الكفر وطاعة كل شيطان مريد { كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } فلهذا قال: { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة، وكأن في هذه الآية الكريمة بيانا وتفسيرا لاتباع رسوله، وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله، هذا هو الاتباع الحقيقي، ثم قال تعالى:

{ 33 - 37 } { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه، فأخبر أنه اصطفى آدم، أي: اختاره على سائر المخلوقات، فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه جنته، وأعطاه من العلم والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات، ولهذا فضل بنيه، فقال تعالى: { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا }

واصطفى نوحا فجعله أول رسول إلى أهل الأرض حين عبدت الأوثان، ووفقه من الصبر والاحتمال والشكر والدعوة إلى الله في جميع الأوقات ما أوجب اصطفاءه واجتباءه، وأغرق الله أهل الأرض بدعوته، ونجاه ومن معه في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم الباقين، وترك عليه ثناء يذكر في جميع الأحيان والأزمان.

واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته، وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ودعا إلى ربه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، ويدخل في آل إبراهيم جميع الأنبياء الذين بعثوا من بعده لأنهم من ذريته، وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين، ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره، وفاق صلى الله عليه وسلم الأولين والآخرين، فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم.

واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران، أو والد موسى بن عمران عليه السلام، فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين، وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم، فلهذا قال تعالى { ذرية بعضها من بعض }

أي: حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والأخلاق الجميلة، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار { ومن آبائهم وإخوانهم وذرياتهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } { والله سميع عليم } يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم، ونسأل الله أن يوفقنا لما وفقهم، وأن لا نزال نزري أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم ومزاياهم الجميلة، وهذا أيضا من لطفه بهم، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين والآخرين، والتنويه بشرفهم، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته، لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا

ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها، فقال: { إذ قالت امرأة عمران } أي: والدة مريم لما حملت { رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا } أي: جعلت ما في بطني خالصا لوجهك، محررا لخدمتك وخدمة بيتك { فتقبل مني } هذا العمل المبارك { إنك أنت السميع العليم } تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي، هذا وهي في البطن قبل وضعها

{ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى } كأنها تشوفت أن يكون ذكرا ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعا، ففي كلامها [نوع] عذر من ربها، فقال الله: { والله أعلم بما وضعت } أي: لا يحتاج إلى إعلامها، بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي { وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم } فيه دلالة على تفضيل الذكر على الأنثى، وعلى التسمية وقت الولادة، وعلى أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من الشيطان الرجيم.

{ فتقبلها ربها بقبول حسن } أي: جعلها نذيرة مقبولة، وأجارها وذريتها من الشيطان { وأنبتها نباتًا حسنًا } أي: نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها وأخلاقها، لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام { وكفلها } إياه، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها فكان { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا } أي: من غير كسب ولا تعب، بل رزق ساقه الله إليها، وكرامة أكرمها الله بها، فيقول لها زكريا { أنى لك هذا قالت هو من عند الله } فضلا وإحسانا { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب، قال تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب } وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك، خلافا لمن نفى ذلك، فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم، وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب، طمعت نفسه بالولد، فلهذا قال تعالى:

{ 38 - 41 } { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }

أي: دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة، أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم. فاستجاب له دعاءه.

وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع نادته الملائكة { أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله } أي: بعيسى عليه السلام، لأنه كان بكلمة الله { وسيدًا } أي: يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به سيدا يرجع إليه في الأمور { وحصورًا } أي: ممنوعا من إتيان النساء، فليس في قلبه لهن شهوة، اشتغالا بخدمة ربه وطاعته { ونبيًا من الصالحين } فأي: بشارة أعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة بوجوده، وبكمال صفاته، وبكونه نبيا من الصالحين، فقال زكريا من شدة فرحه { رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } وكل واحد من الأمرين مانع من وجود الولد، فكيف وقد اجتمعا، فأخبره الله تعالى أن هذا خارق للعادة، فقال: { كذلك الله يفعل ما يشاء } فكما أنه تعالى قدر وجود الأولاد بالأسباب التي منها التناسل، فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل، لأنه لا يستعصي عليه شيء، فقال زكريا عليه السلام استعجالا لهذا الأمر، وليحصل له كمال الطمأنينة.

{ رب اجعل لي آية } أي: علامة على وجود الولد قال { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا } أي: ينحبس لسانك عن كلامهم من غير آفة ولا سوء، فلا تقدر إلا على الإشارة والرمز، وهذا آية عظيمة أن لا تقدر على الكلام، وفيه مناسبة عجيبة، وهي أنه كما يمنع نفوذ الأسباب مع وجودها، فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن الأسباب كلها مندرجة في قضائه وقدره، فامتنع من الكلام ثلاثة أيام، وأمره الله أن يشكره ويكثر من ذكره بالعشي والإبكار، حتى إذا خرج على قومه من المحراب { فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًّا } أي: أول النهار وآخره.


{ 42 - 44 } { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }

ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت { يا مريم إن الله اصطفاك } أي: اختارك { وطهّرك } من الآفات المنقصة { واصطفاك على نساء العالمين } الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها، أو مطلقا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم يناف الاصطفاء المذكور، فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة: { يا مريم اقنتي لربك }

{ اقنتي لربك } القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع، { واسجدي واركعي مع الراكعين } خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله، ففعلت مريم، ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة، ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي.

قال { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم } أي: عندهم { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك، كما قال تعالى: { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } الآيات.

{ 45 - 58 } { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ }

يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله، لأن حالته خارجة عن الأسباب، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ في جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الذكية من ذلك الملك الزكي، فأنشأ الله منها تلك الروح الزكية، فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية، فلهذا سمى روح الله { وجيها في الدنيا والآخرة } أي: له الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب، وفي الآخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين، ويظهر فضله على أكثر العالمين، فلهذا كان من المقربين إلى الله، أقرب الخلق إلى ربهم، بل هو عليه السلام من سادات المقربين.

{ ويكلم الناس فى المهد وكهلا } وهذا غير التكليم المعتاد، بل المراد يكلم الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم، وهو تكليم المرسلين، ففي هذا إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم، وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من آيات الله ينتفع بها المؤمنون، وتكون حجة على المعاندين، أنه رسول رب العالمين، وأنه عبد الله، وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به { ومن الصالحين } أي: يمن عليه بالصلاح، من من عليهم، ويدخله في جملتهم، وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه السلام.

{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } والولد في العادة لا يكون إلا من مس البشر، وهذا استغراب منها، لا شك في قدرة الله تعالى: { قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة، خلقه من يقول لكل أمر أراده: كن فيكون، فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والآخر عاقر، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن.

ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، فقال { ويعلمه الكتاب } يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب، فيكون ذكر التوراة والإنجيل تخصيصا لهما، لشرفهما وفضلهما واحتوائهما على الأحكام والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم، لذلك يدخل فيه تعليم ألفاظه ومعانيه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله { ويعلمه الكتاب } أي: الكتابة، لأن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم }

والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع، ووضع الأشياء مواضعها، فيكون ذلك امتنانا على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة، وهذا هو الكمال للإنسان في نفسه.

ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل، فقال { ورسولا إلى بني إسرائيل } فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله، وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين } طيرا، أي: أصوره على شكل الطير { فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } أي: طيرا له روح تطير بإذن الله { وأبرى الأكمه } وهو الذي يولد أعمى { والأبرص } بإذن الله { وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } وأي: آية أعظم من جعل الجماد حيوانا، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها، وإحياء الموتى، والإخبار بالأمور الغيبية، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان.

{ ومصدقا لما بين يدي من التوراة } أي: أتيت بجنس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى عليه السلام، وعلامة الصادق أن يكون خبره من جنس خبر الصادقين، يخبر بالصدق، ويأمر بالعدل من غير تخالف ولا تناقض، بخلاف من ادعى دعوى كاذبة، خصوصا أعظم الدعاوى وهي دعوى النبوة، فالكاذب فيها لابد أن يظهر لكل أحد كذب صاحبها وتناقضه ومخالفته لأخبار الصادقين وموافقته لأخبار الكاذبين، هذا موجب السنن الماضية والحكمة الإلهية والرحمة الربانية بعباده، إذ لا يشتبه الصادق بالكاذب في دعوى النبوة أبدا، بخلاف بعض الأمور الجزئية، فإنه قد يشتبه فيها الصادق بالكاذب، وأما النبوة فإنه يترتب عليها هداية الخلق أو ضلالهم وسعادتهم وشقاؤهم، ومعلوم أن الصادق فيها من أكمل الخلق، والكاذب فيها من أخس الخلق وأكذبهم وأظلمهم، فحكمة الله ورحمته بعباده أن يكون بينهما من الفروق ما يتبين لكل من له عقل، ثم أخبر عيسى عليه السلام أن شريعة الإنجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل بل كان متمما لها ومقررا { وجئتكم بآية من ربكم } تدل على صدقي ووجوب اتباعي، وهي ما تقدم من الآيات، والمقصود من ذلك كله قوله { فاتقوا الله } بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني فإن طاعة الرسول طاعة لله.

{ إن الله ربي وربكم فاعبدوه } استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد الإلهية الذي ينكره المشركون، فكما أن الله هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة، فليكن هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، وفي هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله، وهذا إقراره عليه السلام بأنه عبد مدبر مخلوق، كما قال { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } وقال تعالى: { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته } إلى قوله { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } وقوله { هذا } أي: عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله { صراط مستقيم } موصل إلى الله وإلى جنته، وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم.

{ فلما أحس عيسى منهم الكفر } أي: رأى منهم عدم الانقياد له، وقالوا هذا سحر مبين، وهموا بقتله وسعوا في ذلك { قال من أنصاري إلى الله } من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله { قال الحواريون } وهم الأنصار { نحن أنصار الله } أي: انتدبوا معه وقاموا بذلك.

وقالوا: { آمنا بالله } { فاكتبنا مع الشاهدين } أي: الشهادة النافعة، وهي الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك، فلما قاموا مع عيسى بنصر دين الله وإقامة شرعه آمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فاقتتلت الطائفتان فأيد الله الذين آمنوا بنصره على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، فلهذا قال تعالى هنا { ومكروا } أي: الكفار بإرادة قتل نبي الله وإطفاء نوره { ومكر الله } بهم جزاء لهم على مكرهم { والله خير الماكرين } رد الله كيدهم في نحورهم، فانقلبوا خاسرين.

{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا } فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه، وألقي شبهه على غيره، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه، وباءوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله، قال الله { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } وفي هذه الآية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة بالقبول والإيمان والتسليم، وكان الله عزيزا قويا قاهرا، ومن عزته أن كف بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه السلام، كما قال تعالى { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } حكيم يضع الأشياء مواضعها، وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل، فوقعوا في الشبه كما قال تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا } ثم قال تعالى: { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وتقدم أن الله أيد المؤمنين منهم على الكافرين، ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام لم يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود، حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة، فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار، وإنما يحصل في بعض الأزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين، حكمة من الله وعقوبة على تركهم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم { ثم إلي مرجعكم } أي: مصير الخلائق كلها { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } كل يدعي أن الحق معه وأنه المصيب وغيره مخطئ، وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان.

ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل، فقال { فأما الذين كفروا } أي: بالله وآياته ورسله { فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة } أما عذاب الدنيا، فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل والذل، وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الآخرة، وأما عذاب الآخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار { وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من عذاب الله، لا من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، ولا ما اتخذوهم أولياء من دونه، ولا أصدقائهم وأقربائهم، ولا أنفسهم ينصرون.

{ وأما الذين آمنوا } بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير ذلك مما أمر الله بالإيمان به { وعملوا الصالحات } القلبية والقولية والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون، وقصدوا بها رضا رب العالمين { فيوفيهم أجورهم } دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا، فيعطي منهم كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه { والله لا يحب الظالمين } بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه.

{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } وهذا منة عظيمة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، حيث أنزل عليهم هذا الذكر الحكيم، المحكم المتقن، المفصل للأحكام والحلال والحرام وإخبار الأنبياء الأقدمين، وما أجرى الله على أيديهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات، فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الأخبار والأحكام، فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من أعظم رحمة رب العباد.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:41 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 59-77 )
وهي مدنية

{ 59 - 60 } { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق، بغير برهان ولا شبهة، بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية، وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة، لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته، فهو على نقيض قولهم أدل، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم، فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح، فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى، فإن صح إدعاء البنوة والإلهية في المسيح، فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى، فلهذا قال تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك } أي: هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلام هو الحق الذي في أعلى رتب الصدق، لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولأمتك أن قص عليكم ما قص من أخبار الأنبياء عليهم السلام. { فلا تكن من الممترين } أي: الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك، وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر العبد على حلها أم لا، فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه، لأن ما خالف الحق فهو باطل، قال تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه.


{ 61 - 63 } { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }

أي: { فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية، بل رفعه فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه، وهذا غاية الفساد والعناد، فلهذا قال تعالى { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة. وأخبر تعالى { إن هذا } الذي قصه الله على عباده هو { القصص الحق } وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه فهو باطل { وما من إله إلا الله } فهو المألوه المعبود حقا الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا يستحق غيره مثقال ذرة من العبادة { وإن الله لهو العزيز } الذي قهر كل شيء وخضع له كل شيء { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة التامة في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل


{ 64 } { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }

أي: قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } أي: هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون، ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل مشتركة بيننا وبينكم، وهذا من العدل في المقال والإنصاف في الجدال، ثم فسرها بقوله { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } فنفرد الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء ولا نشرك به نبيا ولا ملكا ولا وليا ولا صنما ولا وثنا ولا حيوانا ولا جمادا { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله، فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق، لأن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية، فإذا دعي أهل الكتاب أو غيرهم إلى ذلك، فإن أجابوا كانوا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن تولوا فهم معاندون متبعون أهواءهم فاشهدوهم أنكم مسلمون، ولعل الفائدة في ذلك أنكم إذا قلتم لهم ذلك وأنتم أهل العلم على الحقيقة، كان ذلك زيادة على إقامة الحجة عليهم كما استشهد تعالى بأهل العلم حجة على المعاندين، وأيضا فإنكم إذا أسلمتم أنتم وآمنتم فلا يعبأ الله بعدم إسلام غيركم لعدم زكائهم ولخبث طويتهم، كما قال تعالى { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } الآية وأيضا فإن في ورود الشبهات على العقيدة الإيمانية مما يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن بإسلامه، إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه.


{ 65 - 68 } { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }

لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى أنه نصراني، وجادلوا على ذلك، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه، أحدها: أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم، الوجه الثاني: أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم، فهل هذا يعقل؟! فلهذا قال { أفلا تعقلون } أي: فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك، الوجه الثالث: أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين، وجعله حنيفا مسلما، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين، فليسوا من إبراهيم وليس منهم، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب. وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه، وفيها أيضا حث على علم التاريخ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ، ثم قال تعالى:


{ 69 - 74 } { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ *يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب، وأنهم يودون أن يضلوكم، كما قال تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا } ومن المعلوم أن من ود شيئا سعى بجهده على تحصيل مراده، فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه، ولكن من لطف الله أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فلهذا قال تعالى { وما يضلون إلا أنفسهم } فسعيهم في إضلال المؤمنين زيادة في ضلال أنفسهم وزيادة عذاب لهم، قال تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } { وما يشعرون } بذلك أنهم يسعون في ضرر أنفسهم وأنهم لا يضرونكم شيئا.

{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } أي: ما الذي دعاكم إلى الكفر بآيات الله مع علمكم بأن ما أنتم عليه باطل، وأن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا تشكون فيه، بل تشهدون به ويسر به بعضكم إلى بعض في بعض الأوقات، فهذا نهيهم عن ضلالهم.

ثم وبخهم على إضلالهم الخلق، فقال { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } فوبخهم على لبس الحق بالباطل وعلى كتمان الحق، لأنهم بهذين الأمرين يضلون من انتسب إليهم، فإن العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهما وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به، ويميزوا الحق من الباطل، ويظهروا الخبيث من الطيب، والحلال والحرام ، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة، ليهتدي المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين قال تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم }

ثم أخبر تعالى عن ما همت به هذه الطائفة الخبيثة، وإرادة المكر بالمؤمنين، فقال { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } أي: ادخلوا في دينهم على وجه المكر والكيد أول النهار، فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه { لعلهم يرجعون } عن دينهم، فيقولون لو كان صحيحا لما خرج منه أهل العلم والكتاب، هذا الذي أرادوه عجبا بأنفهسم وظنا أن الناس سيحسنون ظنهم بهم ويتابعونهم على ما يقولونه ويفعلونه، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

{ و } قال بعضهم لبعض { لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي: لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، واكتموا أمركم، فإنكم إذا أخبرتم غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم من العلم ما حصل لكم فصاروا مثلكم، أو حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم أنها قامت عليكم الحجة وتبين لكم الهدى فلم تتبعوه، فالحاصل أنهم جعلوا عدم إخبار المؤمنين بما معهم من العلم قاطعا عنهم العلم، لأن العلم بزعمهم لا يكون إلا عندهم وموجبا للحجة عليهم، فرد الله عليهم بأن { الهدى هدى الله } فمادة الهدى من الله تعالى لكل من اهتدى، فإن الهدى إما علم الحق، أو إيثارة، ولا علم إلا ما جاءت به رسل الله، ولا موفق إلا من وفقه الله، وأهل الكتاب لم يؤتوا من العلم إلا قليلا، وأما التوفيق فقد انقطع حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم، وأما هذه الأمة فقد حصل لهم ولله الحمد من هداية الله من العلوم والمعارف مع العمل بذلك ما فاقوا به وبرزوا على كل أحد، فكانوا هم الهداة الذين يهدون بأمر الله، وهذا من فضل الله عليها وإحسانه العظيم، فلهذا قال تعالى { قل إن الفضل بيد الله } أي: الله هو الذي يحسن على عباده بأنواع الإحسان { يؤتيه من يشاء } ممن أتى بأسبابه { والله واسع } الفضل كثير الإحسان { عليم } بمن يصلح للإحسان فيعطيه، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه.

{ يختص برحمته من يشاء } أي: برحمته المطلقة التي تكون في الدنيا متصلة بالآخرة وهي نعمة الدين ومتمماته { والله ذو الفضل العظيم } الذي لا يصفه الواصفون ولا يخطر بقلب بشر، بل وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.


{ 75 - 77 } { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال، لما ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق، فأخبر أن منهم الخائن والأمين، وأن منهم { من إن تأمنه بقنطار } وهو المال الكثير { يؤده } وهو على أداء ما دونه من باب أولى، ومنهم { من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى، والذي أوجب لهم الخيانة وعدم الوفاء إليكم بأنهم زعموا أنه { ليس } عليهم { في الأميين سبيل } أي: ليس عليهم إثم في عدم أداء أموالهم إليهم، لأنهم بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الاحتقار، ورأوا أنفسهم في غاية العظمة، وهم الأذلاء الأحقرون، فلم يجعلوا للأميين حرمة، وأجازوا ذلك، فجمعوا بين أكل الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على الله، لأن العالم الذي يحلل الأشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم أنه يخبر عن حكم الله ليس يخبر عن نفسه، وذلك هو الكذب، فلهذا قال { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم إثما من القول على الله بلا علم، ثم رد عليهم زعمهم الفاسد.

فقال { بلى } أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه ليس عليكم في الأميين حرج، بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الإثم.

{ من أوفى بعهده واتقى } والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه، وهو جميع ما أوجبه الله على العبد من حقه، ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد، والتقوى تكون في هذا الموضع، ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين ربه، وبينه وبين الخلق، فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين يحبهم الله تعالى، سواء كانوا من الأميين أو غيرهم، فمن قال ليس علينا في الأميين سبيل، فلم يوف بعهده ولم يتق الله، فلم يكن ممن يحبه الله، بل ممن يبغضه الله، وإذا كان الأمييون قد عرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله وعدم التجرئ على الأموال المحترمة، كانوا هم المحبوبين لله، المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وكانوا أفضل خلق الله وأجلهم، بخلاف الذين يقولون ليس علينا في الأميين سبيل، فإنهم داخلون في قوله: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } ويدخل في ذلك كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله أو حق عباده، وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه الآية، فهؤلاء { لا خلاق لهم في الآخرة } أي: لا نصيب لهم من الخير { ولا يكلمهم الله } يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا، لتقديمهم هوى أنفسهم على رضا ربهم { ولا يزكيهم } أي: يطهرهم من ذنوبهم، ولا يزيل عيوبهم { ولهم عذاب أليم } أي: موجع للقلوب والأبدان، وهو عذاب السخط والحجاب، وعذاب جهنم، نسأل الله العافية.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:42 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 78-101 )
وهي مدنية

{ 78 } { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

يخبر تعالى أن من أهل الكتاب فريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب، أي: يميلونه ويحرفونه عن المقصود به، وهذا يشمل اللي والتحريف لألفاظه ومعانيه، وذلك أن المقصود من الكتاب حفظ ألفاظه وعدم تغييرها، وفهم المراد منها وإفهامه، وهؤلاء عكسوا القضية وأفهموا غير المراد من الكتاب، إما تعريضا وإما تصريحا، فالتعريض في قوله { لتحسبوه من الكتاب } أي: يلوون ألسنتهم ويوهمونكم أنه هو المراد من كتاب الله، وليس هو المراد، والتصريح في قولهم: { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم جرما ممن يقول على الله بلا علم، هؤلاء يقولون على الله الكذب فيجمعون بين نفي المعنى الحق، وإثبات المعنى الباطل، وتنزيل اللفظ الدال على الحق على المعنى الفاسد، مع علمهم بذلك.


{ 79 - 80 } { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

وهذه الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإيمان به ودعاهم إلى طاعته: أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله، فقوله { ما كان لبشر } أي: يمتنع ويستحيل على بشر من الله عليه بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق { أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، لأن هذا أقبح الأوامر على الإطلاق، والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق، فأوامرهم تكون مناسبة لأحوالهم، فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور القبيحة، فلهذا قال { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } أي: ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين، أي: علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل، والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ، باء السببية، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.

{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } وهذا تعميم بعد تخصيص، أي: لا يأمركم بعبادة نفسه ولا بعبادة أحد من الخلق من الملائكة والنبيين وغيرهم { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } هذا ما لا يكون ولا يتصور أن يصدر من أحد من الله عليه بالنبوة، فمن قدح في أحد منهم بشيء من ذلك فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما.


{ 81 - 82 } { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }

يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال، إنه إن بعث الله رسولا مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان، فهم كالشيء الواحد، فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم، فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى { قالوا أقررنا } أي: قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين { قال } الله لهم: { فاشهدوا } على أنفسكم وعلى أممكم بذلك، قال { وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك } العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله ومن رسله { فأولئك هم الفاسقون } فعلى هذا كل من ادعى أنه من أتباع الأنبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم، فقد تولوا عن هذا الميثاق الغليظ، واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار إن لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.


{ 83 } { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

أي: أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله؟ لا يحسن هذا ولا يليق، لأنه لا أحسن دينا من دين الله { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } أي: الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا، وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم، وكرها وهم سائر الخلق، حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه، ولا امتناع لهم منه، وإليه مرجع الخلائق كلها، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل.

{ 84 } { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

تقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة، ثم قال تعالى.


{ 85 } { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

أي: من يدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول، لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله، إخلاصا وانقيادا لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل، ثم قال تعالى:


{ 86 - 88 } { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }

هذا من باب الاستبعاد، أي: من الأمر البعيد أن يهدي الله قوما اختاروا الكفر والضلال بعدما آمنوا وشهدوا أن الرسول حق بما جاءهم به من الآيات البينات والبراهين القاطعات { والله لا يهدي القوم الظالمين } فهؤلاء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه، واتبعوا الباطل مع علمهم ببطلانه ظلما وبغيا واتباعا لأهوائهم، فهؤلاء لا يوفقون للهداية، لأن الذي يرجى أن يهتدي هو الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه، فهذا بالحري أن ييسر الله له أسباب الهداية ويصونه من أسباب الغواية.

ثم أخبر عن عقوبة هؤلاء المعاندين الظالمين الدنيوية والأخروية، فقال { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أي: لا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا لحظة، لا بإزالته أو إزالة بعض شدته، { ولا هم ينظرون } أي: يمهلون، لأن زمن الإمهال قد مضى، وقد أعذر الله منهم وعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر، فلو كان فيهم خير لوجد، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.


{ 90 - 91 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }

يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال، واستمراره على ترك الرشد والهدى، أنه لا تقبل توبتهم، أي: لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون، قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } { فلما زغوا أزاغ الله قلوبهم } فالسيئات ينتج بعضها بعضا، وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم، وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف، فقال { وأولئك هم الضالون } وأي: ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة، وهؤلاء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات تعين هلاكهم وشقاؤهم الأبدي، ولم ينفعهم شيء، فلو أنفق أحدهم ملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب الله ما نفعه ذلك، بل لا يزالون في العذاب الأليم، لا شافع لهم ولا ناصر ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله فأيسوا من كل خير، وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط، فعياذا بالله من حالهم.


{ 92 } { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات، فقال { لن تنالوا } أي: تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة، { حتى تنفقوا مما تحبون } أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك، ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثابا عليه العبد، سواء كان قليلا أو كثيرا، محبوبا للنفس أم لا، وكان قوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.

تفسير الجزء الرابع

{ 93 - 95 } { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل { إلا ما حرم إسرائيل } وهو يعقوب عليه السلام { على نفسه } أي: من غير تحريم من الله تعالى، بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الأطعمة عليه، فحرم فيما يذكرون لحوم الإبل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة، ثم نزل في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلالا لهم طيبا، كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة، فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد، فلهذا قال تعالى { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } وأي: ظلم أعظم من ظلم من يدعى إلى تحكيم كتابه فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا، وهذا من أعظم الأدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيام الآيات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به من الأمور التي لا يعلمها إلا بإخبار ربه له بها، فلهذا قال تعالى { قل صدق الله } أي: فيما أخبر به وحكم، وهذا أمر من الله لرسوله ولمن يتبعه أن يقولوا بألسنتهم: صدق الله، معتقدين بذلك في قلوبهم عن أدلة يقينية، مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها، ومن هنا تعلم أن أعظم الناس تصديقا لله أعظمهم علما ويقينا بالأدلة التفصيلية السمعية والعقلية، ثم أمرهم باتباع ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام بالتوحيد وترك الشرك الذي هو مدار السعادة، وبتركه حصول الشقاوة، وفي هذا دليل على أن اليهود وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين، ولما أمرهم باتباع ملة إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته الحرام بالحج وغيره، فقال:

{ 96 - 97 } { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

يخبر تعالى عن شرف هذا البيت الحرام، وأنه أول بيت وضعه الله للناس، يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم، وتقال عثارهم، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم والفوز بثوابه والنجاة من عقابه، ولهذا قال: { مباركا } أي: فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية والدنيوية كما قال تعالى { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } { وهدى للعالمين } والهدى نوعان: هدى في المعرفة، وهدى في العمل، فالهدى في العمل ظاهر، وهو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق بسبب الآيات البينات التي ذكر الله تعالى في قوله { فيه آيات بينات } أي: أدلة واضحات، وبراهين قاطعات على أنواع من العلوم الإلهية والمطالب العالية، كالأدلة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وكمال علمه وسعة جوده، وما مَنَّ به على أوليائه وأنبيائه، فمن الآيات { مقام إبراهيم } يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان، وكان ملصقا في جدار الكعبة، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة، وهذا من خوارق العادات، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات، كالطواف والسعي ومواضعها، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والرمي، وسائر الشعائر، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها، ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله، وأن لا يهاج، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه، وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه، ومن جعله حرما أن كل من أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم، وقد رأيت لابن القيم هاهنا كلاما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } "حج البيت" مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله: "على الناس" لأنه وجوب، والوجوب يقتضي "على" ويجوز أن يكون في قوله: "ولله" لأنه متضمن الوجوب والاستحقاق، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها، وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير، فكان الأحسن أن يكون "ولله على الناس" . ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله: "حج البيت على الناس" أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال: "حج البيت لله" أي: حق واجب لله، فتأمله. وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان: إحداهما: أنه اسم للموجب للحج، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب، فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع: أحدها: الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره، والثاني: مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس، والثالث: النسبة، والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء، وهو الحج.

والفائدة الثانية: أن الاسم المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه، وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه، وتخويفا من تضييعه، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره.

وأما قوله: "مَنْ" فهي بدل، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر، كأنه قال: أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا، وهذا القول يضعف من وجوه، منها: أن الحج فرض عين، ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية، لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم، لأن المعنى يؤل إلى: ولله على الناس حج البيت مستطيعهم، فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين، وليس الأمر كذلك، بل الحج فرض عين على كل أحد، حج المستطيعون أو قعدوا، ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه، فإذا حج سقط الفرض عن نفسه، وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين، وإذا أردت زيادة إيضاح، فإذا قلت: واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد، فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم، وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع، كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال: ولله حج البيت على المستطيعين، هذه النكتة البديعة فتأملها.

الوجه الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول، فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه فكان يقال: "ولله على الناس حج مَنْ استطاع" وحمله على باب "يعجبني ضرب زيد عمرا" وفيما يفصل فيه بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب المرجوح، وهي قراءة ابن عامر ( قتل أولادهم شركائهم )، فلا يصار إليه.وإذا ثبت أن "من" بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى "الناس" كأنه قيل: من استطاع منهم، وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن، وحسنه هاهنا أمور منها: أن "من" واقعة على من لا يعقل، كالاسم المبدل منه فارتبطت به، ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول، ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد، ومثال ذلك إذا قلت: رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم، كان قبيحا، لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة، وكذلك لو قلت: البس الثياب ما حسن وجمل، يريد منها، ولم يذكر الضمير كان أبعد في الجواز، لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب.

وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه، فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص، ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول.

وأما المجرور من قوله "لله" فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع من سبيل، كأنه نعت نكرة قدم عليها، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل، والثاني: أن يكون متعلقا بسبيل، فإن قلت: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟ قيل: السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما، كان فيه رائحة الفعل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق، فصلح تعلق المجرور به، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير، لأنه ضمير يعود على البيت، والبيت هو المقصود به الاعتناء، وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي، وهذا بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين، ولا يليق بالآية سواه، وهو الوجوب المفهوم من قوله "على الناس" أي: يجب لله على الناس الحج، فهو حق واجب لله، وأما تعليقه بالسبيل وجعله حالا منها، ففي غاية البعد فتأمله، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية، وهذا كما تقول: لله عليك الصلاة والزكاة والصيام.

ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي، وهو الأكثر، وبلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم نحو { كتب عليكم الصيام } { حرمت عليكم الميتة } { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه، أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل الاستطاعة، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي: سبيل تيسرت، من قوت أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال { ومن كفر } أي: لعدم التزامه هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه، والله تعالى هو الغني الحميد، ولا حاجة به إلى حج أحد، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكد ذلك بذكر اسم "العالمين" عموما، ولم يقل: فإن الله غني عنه، لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار، فكان أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه، ثم أكد هذا المعنى بأداة "إن" الدالة على التأكيد، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم.

وتأمل سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين، مرة بإسناده إلى عموم الناس، ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته.

ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وخلتين، اعتناء به وتأكيد لشأنه، ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها، فقال: { إن أول بيت } إلخ، فوصفه بخمس صفات: أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض، الثاني: أنه مبارك، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق، الثالث: أنه هدى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة، حتى كأنه نفس الهدى، الرابع ما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية، الخامس: الأمن الحاصل لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات، وهذا يدل على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته، فهذه المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:

أطوف به والنفس بعد مشوقة

إليه وهل بعـد الطـواف تداني

وألثم منه الركـن أطلـب برد ما

بقلبي من شـوق ومن هيمان

فـوالله مـا ازداد إلا صبــابة

ولا القــلب إلا كثرة الخفقان

فيـا جنة المأوى ويا غاية المنى

ويا منيتي من دون كل أمـان

أبت غلبـات الشـوق إلا تقـربا

إليـك فمـا لي بالبـعاد يدان

ومـا كان صدى عنك صد ملالة

ولي شـاهد من مقلتي ولسان

دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا

فلبى البكا والصبر عنك عصاني

وقـد زعموا أن المـحب إذا نأى

سيبلى هـواه بعد طـول زمان

ولـو كان هذا الزعم حقا لكان ذا

دواء الهوى في الناس كل زمان

بلى إنـه يبلـى والهـوى عـلى

حاله لم يبله الملـوان

وهذا محـب قاده الشوق والهوى

بغـير زمـام قائد وعنــان

أتاك عـلى بعد المـزار ولو ونت

مطيته جــاءت به القـدمان


انتهى كلامه رحمه الله تعالى.


{ 98 - 101 } { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

يوبخ تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى على كفرهم بآيات الله التي أنزلها الله على رسله، التي جعلها رحمة لعباده يهتدون بها إليه، ويستدلون بها على جميع المطالب المهمة والعلوم النافعة، فهؤلاء الكفرة جمعوا بين الكفر بها وصد من آمن بالله عنها وتحريفها وتعويجها عما جعلت له، وهم شاهدون بذلك عالمون بأن ما فعلوه أعظم الكفر الموجب لأعظم العقوبة { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } فلهذا توعدهم هنا بقوله: { وما الله بغافل عما تعملون } بل محيط بأعمالكم ونياتكم ومكركم السيء، فمجازيكم عليه أشر الجزاء لما توعدهم ووبخهم عطف برحمته وجوده وإحسانه وحذر عباده المؤمنين منهم لئلا يمكروا بهم من حيث لا يشعرون، فقال: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وذلك لحسدهم وبغيهم عليكم، وشدة حرصهم على ردكم عن دينكم، كما قال تعالى: { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } ثم ذكر تعالى السبب الأعظم والموجب الأكبر لثبات المؤمنين على إيمانهم، وعدم تزلزلهم عن إيقانهم، وأن ذلك من أبعد الأشياء، فقال: { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } أي: الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت، وهي الآيات البينات التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه بوجه من الوجوه، خصوصا والمبين لها أفضل الخلق وأعلمهم وأفصحهم وأنصحهم وأرأفهم بالمؤمنين، الحريص على هداية الخلق وإرشادهم بكل طريق يقدر عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، فلقد نصح وبلغ البلاغ المبين، فلم يبق في نفوس القائلين مقالا ولم يترك لجائل في طلب الخير مجالا، ثم أخبر أن من اعتصم به فتوكل عليه وامتنع بقوته ورحمته عن كل شر، واستعان به على كل خير { فقد هدي إلى صراط مستقيم } موصل له إلى غاية المرغوب، لأنه جمع بين اتباع الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله وبين الاعتصام بالله.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:43 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 102-126 )
وهي مدنية

{ 102 - 103 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة، وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا، يجمعها فعل ما أمر الله به وترك كل ما نهى الله عنه، ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار } أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { كذلك يبين الله لكم آياته } أي: يوضحها ويفسرها، ويبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال { لعلكم تهتدون } بمعرفة الحق والعمل به، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة، وليزيدهم من فضله وإحسانه، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها.


{ 104 - 105 } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

أي: وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله { أمة } أي: جماعة { يدعون إلى الخير } وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه { ويأمرون بالمعروف } وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه { وينهون عن المنكر } وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه، وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله { ولتكن منكم أمة } إلخ أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالاستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه، وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين، ولهذا قال تعالى عنهم: { وأولئك هم المفلحون } الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب، ثم نهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم، فقال: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } ومن العجائب أن اختلافهم { من بعد ما جاءهم البينات } الموجبة لعدم التفرق والاختلاف، فهم أولى من غيرهم بالاعتصام بالدين، فعكسوا القضية مع علمهم بمخالفتهم أمر الله، فاستحقوا العقاب البليغ، ولهذا قال تعالى: { وأولئك لهم عذاب عظيم }


{ 106 - 108 } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ }

يخبر تعالى عن حال يوم القيامة وما فيه من آثار الجزاء بالعدل والفضل، ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب للخوف والرجاء فقال: { يوم تبيض وجوه } وهي وجوه أهل السعادة والخير، أهل الائتلاف والاعتصام بحبل الله { وتسود وجوه } وهي وجوه أهل الشقاوة والشر، أهل الفرقة والاختلاف، هؤلاء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان والذلة والفضيحة، وأولئك أبيضت وجوههم، لما في قلوبهم من البهجة والسرور والنعيم والحبور الذي ظهرت آثاره على وجوههم كما قال تعالى: { ولقاهم نضرة وسرورا } نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم، وقال تعالى: { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } { فأما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع: { أكفرتم بعد إيمانكم } أي: كيف آثرتم الكفر والضلال على الإيمان والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق الغي؟ { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } فليس يليق بكم إلا النار، ولا تستحقون إلا الخزي والفضيحة والعار.

{ وأما الذين ابيضت وجوههم } فيهنئون أكمل تهنئة ويبشرون أعظم بشارة، وذلك أنهم يبشرون بدخول الجنات ورضى ربهم ورحمته { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وإذا كانوا خالدين في الرحمة، فالجنة أثر من آثار رحمته تعالى، فهم خالدون فيها بما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم، في جوار أرحم الراحمين، لما بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية قال: { تلك آيات الله نتلوها } أي: نقصها { عليك بالحق } لأن أوامره ونواهيه مشتملة على الحكمة والرحمة وثوابها وعقابها، كذلك مشتمل على الحكمة والرحمة والعدل الخالي من الظلم، ولهذا قال: { وما الله يريد ظلما للعالمين } نفى إرادته ظلمهم فضلا عن كونه يفعل ذلك فلا ينقص أحدا شيئا من حسناته، ولا يزيد في ظلم الظالمين، بل يجازيهم بأعمالهم فقط، ثم قال تعالى: .

{ 109 } { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
أي: هو المالك لما في السماوات وما في الأرض، الذي خلقهم ورزقهم ويتصرف فيهم بقدره وقضائه، وفي شرعه وأمره، وإليه يرجعون يوم القيامة فيجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها.


{ 110 - 112 } { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }

يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس، لما كانت الآية السابقة وهي قوله: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرا منه تعالى لهذه الأمة، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به، وقد لا يقوم به، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة، ولكن من لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم، فليس على المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ولا أبدانهم، وإنما غاية ما يصلون إليه من الأذى أذية الكلام التي لا سبيل إلى السلامة منها من كل معادي، فلو قاتلوا المؤمنين لولوا الأدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ولا هم ينصرون في وقت من الأوقات، ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم، فلا يستقرون ولا يطمئنون { إلا بحبل } أي: عهد { من الله وحبل من الناس } فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ منهم الجزية ويستذلون، أو تحت أحكام النصارى وقد { باءوا } مع ذلك { بغضب من الله } وهذا أعظم العقوبات، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله بقوله: { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الموجبة لليقين والإيمان، فكفروا بها بغيا وعنادا { ويقتلون الأنبياء بغير حق } أي: يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون إليهم أعظم إحسان بأشر مقابلة، وهو القتل، فهل بعد هذه الجراءة والجناية شيء أعظم منها، وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم، فهو الذي جرأهم على الكفر بالله وقتل أنبياء الله، ثم قال تعالى:


{ 113 - 115 } { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }

لما بين تعالي الفرقة الفاسقة من أهل الكتاب وبين أفعالهم وعقوباتهم،

بين هاهنا الأمة المستقيمة، وبين أفعالها وثوابها، فأخبر أنهم لا يستوون عنده، بل بينهم من الفرق ما لا يمكن وصفه، فأما تلك الطائفة الفاسقة فقد مضى وصفهم، وأما هؤلاء المؤمنون، فقال تعالى منهم { أمة قائمة } أي: مستقيمة على دين الله، قائمة بما ألزمها الله به من المأمورات، ومن ذلك قيامها بالصلاة { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وهذا بيان لصلاتهم في أوقات الليل وطول تهجدهم وتلاوتهم لكتاب ربهم وإيثارهم الخضوع والركوع والسجود له.

{ يؤمنون بالله واليوم الآخر } أي: كإيمان المؤمنين إيمانا يوجب لهم الإيمان بكل نبي أرسله، وكل كتاب أنزله الله، وخص الإيمان باليوم الآخر لأن الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يحث المؤمن به على ما يقر به إلى الله، ويثاب عليه في ذلك اليوم، وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } فحصل منهم تكميل أنفسهم بالإيمان ولوازمه، وتكميل غيرهم بأمرهم بكل خير، ونهيهم عن كل شر، ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم وصفهم بالهمم العالية { و } أنهم { يسارعون في الخيرات } أي: يبادرون إليها فينتهزون الفرصة فيها، ويفعلونها في أول وقت إمكانها، وذلك من شدة رغبتهم في الخير ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده، فهؤلاء الذين وصفهم الله بهذه الصفات الجميلة والأفعال الجليلة { من الصالحين } الذين يدخلهم الله في رحمته ويتغمدهم بغفرانه وينيلهم من فضله وإحسانه، وأنهم مهما فعلوا { من خير } قليلا كان أو كثيرا { فلن يكفروه } أي: لن يحرموه ويفوتوا أجره، بل يثيبهم الله على ذلك أكمل ثواب، ولكن الأعمال ثوابها تبع لما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والتقوى، فلهذا قال { والله عليم بالمتقين } كما قال تعالى: { إنما يتقبل الله من المتقين }

{ 116 - 117 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

يخبر تعالى أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، أي: لا تدفع عنهم شيئا من عذاب الله، ولا تجدي عليهم شيئا من ثواب الله، كما قال تعالى: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا } بل تكون أموالهم وأولادهم زادا لهم إلى النار، وحجة عليهم في زيادة نعم الله عليهم، تقتضي منهم شكرها، ويعاقبون على عدم القيام بها وعلى كفرها، ولهذا قال: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }

ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار من أموالهم التي يصدون بها عن سبيل الله ويستعينون بها على إطفاء نور الله، بأنها تبطل وتضمحل، كمن زرع زرعا يرجو نتيجته ويؤمل إدراك ريعه، فبينما هو كذلك إذ أصابته ريح فيها صر، أي: برد شديد محرق، فأهلكت زرعه، ولم يحصل له إلا التعب والعناء وزيادة الأسف، فكذلك هؤلاء الكفار الذين قال الله فيهم: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } { وما ظلمهم الله } بإبطال أعمالهم { ولكن } كانوا { أنفسهم يظلمون } حيث كفروا بآيات الله وكذبوا رسوله وحرصوا على إطفاء نور الله، هذه الأمور هي التي أحبطت أعمالهم وذهبت بأموالهم، ثم قال تعالى:


{ 118 - 120 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم { وما تخفي صدورهم أكبر } مما يسمع منهم فلهذا { لا يألونكم خبالا } أي: لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين { قد بينا لكم الآيات } أي: التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية { لعلكم تعقلون } فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو، فليس كل أحد يجعل بطانة، وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه.

قال الله مهيجا للمؤمنين على الحذر من هؤلاء المنافقين من أهل الكتاب، ومبينا شدة عداوتهم { هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بكتابكم، بل إذا لقوكم أظهروا لكم الإيمان { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل } وهي أطراف الأصابع من شدة غيظهم عليكم { قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور } وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلاء الذين قصدوا ضرركم لا يضرون إلا أنفسهم، وإن غيظهم لا يقدرون على تنفيذه، بل لا يزالون معذبين به حتى يموتوا فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.

{ إن تمسسكم حسنة } كالنصر على الأعداء وحصول الفتح والغنائم { تسؤهم } أي: تغمهم وتحزنهم { وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط } فإذا أتيتم بالأسباب التي وعد الله عليها النصر - وهي الصبر والتقوى- لم يضركم مكرهم، بل يجعل الله مكرهم في نحورهم لأنه محيط بهم علمه وقدرته فلا منفذ لهم عن ذلك ولا يخفى عليهم منهم شيء.

{ 121 - 122 } { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

هذه الآيات نزلت في وقعة "أُحد" وقصتها مشهورة في السير والتواريخ، ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع، وأدخل في أثنائها وقعة "بدر" لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم، ورد كيد الأعداء عنهم، وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه، فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين، وأن الله نصر المؤمنين في "بدر" لما صبروا واتقوا، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر، ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون، فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم، كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا، وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } وحاصل قضية "أحد" وإجمالها أن المشركين لما رجع فلهم من "بدر" إلى مكة، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة، استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد، حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم، ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة آلاف مقاتل، حتى نزلوا قرب المدينة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج، وخرج في ألف، فلما ساروا قليلا رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته، وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله، فلما وصلوا إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل "أحد" وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم، فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل، قال بعضهم لبعض: الغنيمة الغنيمة، ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا، ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه، فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر يسير، منهم أميرهم عبد الله بن جبير، جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم، فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم، وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة، فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم، ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل "أحد" وكف الله عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلادهم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى { وإذ غدوت من أهلك } والغدو هاهنا مطلق الخروج، ليس المراد به الخروج في أول النهار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة { تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي: تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه، وسداد نظره وعلو همته، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه { والله سميع } لجميع المسموعات، ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه { عليم } بنيات العبيد، فيجازيهم عليها أتم الجزاء، وأيضا فالله سميع عليم بكم، يكلؤكم، ويتولى تدبير أموركم، ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } ومن لطفه بهم وإحسانه إليهم أنه، لما { همت طائفتان } من المؤمنين بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة كما تقدم ثبتهما الله تعالى نعمة عليهما وعلى سائر المؤمنين، فلهذا قال { والله وليهما } أي: بولايته الخاصة، التي هي لطفه بأوليائه، وتوفيقهم لما فيه صلاحهم وعصمتهم عما فيه مضرتهم، فمن توليه لهما أنهما لما هما بهذه المعصية العظيمة وهي الفشل والفرار عن رسول الله عصمهما، لما معهما من الإيمان كما قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } ثم قال { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ففيها الأمر بالتوكل الذي هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة بالله، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله، وأن المؤمنين أولى بالتوكل على الله من غيرهم، وخصوصا في مواطن الشدة والقتال، فإنهم مضطرون إلى التوكل والاستعانة بربهم والاستنصار له، والتبري من حولهم وقوتهم، والاعتماد على حول الله وقوته، فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البلايا والمحن، ثم قال تعالى:


{ 123 - 126 } { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }

وهذا امتنان منه على عباده المؤمنين، وتذكير لهم بما نصرهم به يوم بدر وهم أذلة في قلة عَددهم وعُددهم مع كثرة عدد عدوهم وعُددهم، وكانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بثلاث مئة وبضعة عشر من أصحابه، ولم يكن معهم إلا سبعون بعيرا وفرسان لطلب عير لقريش قدمت من الشام، فسمع به المشركون فتجهزوا من مكة لفكاك عيرهم، وخرجوا في زهاء ألف مقاتل مع العدة الكاملة والسلاح العام والخيل الكثيرة، فالتقوا همم والمسلمون في ماء يقال له "بدر" بين مكة والمدينة فاقتتلوا، ونصر الله المسلمين نصرا عظيما، فقتلوا من المشركين سبعين قتيلا من صناديد المشركين وشجعانهم، وأسروا سبعين، واحتووا على معسكرهم ستأتي - إن شاء الله - القصة في سورة الأنفال، فإن ذلك موضعها، ولكن الله تعالى هنا أتى بها ليتذكر بها المؤمنون ليتقوا ربهم ويشكروه، فلهذا قال { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } لأن من اتقى ربه فقد شكره، ومن ترك التقوى فلم يشكره، إذ تقول يا محمد للمؤمنين يوم بدر مبشرا لهم بالنصر.

{ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا } أي: من مقصدهم هذا، وهو وقعة بدر { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } أي: معلمين بعلامة الشجعان، فشرط الله لإمدادهم ثلاثة شروط: الصبر، والتقوى، وإتيان المشركين من فورهم هذا، فهذا الوعد بإنزال الملائكة المذكورين وإمدادهم بهم، وأما وعد النصر وقمع كيد الأعداء فشرط الله له الشرطين الأولين كما تقدم في قوله: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }

{ وما جعله الله } أي: إمداده لكم بالملائكة { إلا بشرى } تستبشرون بها وتفرحون { ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله } فلا تعتمدوا على ما معكم من الأسباب، بل الأسباب فيها طمأنينة لقلوبكم، وأما النصر الحقيقي الذي لا معارض له، فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده، فإنه إن شاء نصر من معه الأسباب كما هي سنته في خلقه، وإن شاء نصر المستضعفين الأذلين ليبين لعباده أن الأمر كله بيديه، ومرجع الأمور إليه، ولهذا قال { عند الله العزيز } فلا يمتنع عليه مخلوق، بل الخلق كلهم أذلاء مدبرون تحت تدبيره وقهره { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض الأوقات على المسلمين إدالة غير مستقرة، قال تعالى: { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض }.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:43 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 127-151 )
وهي مدنية

{ 127 } { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ }

يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لأحد أمرين: إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا، أي: جانبا منهم وركنا من أركانهم، إما بقتل، أو أسر، أو استيلاء على بلد، أو غنيمة مال، فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون، وذلك لأن مقاومتهم ومحاربتهم للإسلام تتألف من أشخاصهم وسلاحهم وأموالهم وأرضهم فبهذه الأمور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من ذلك ذهاب لبعض قوتهم، الأمر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم، طمعا في المسلمين، ويمنوا أنفسهم ذلك، ويحرصوا عليه غاية الحرص، ويبذلوا قواهم وأموالهم في ذلك، فينصر الله المؤمنين عليهم ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم، بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة، وإذا تأملت الواقع رأيت نصر الله لعباده المؤمنين دائرا بين هذين الأمرين، غير خارج عنهما إما نصر عليهم أو خذل لهم.


{ 128 - 129 } { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

لما جرى يوم "أحد" ما جرى، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب، رفع الله بها درجته، فشج رأسه وكسرت رباعيته، قال "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك، فعل، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم، وأن هذا شرك في العبادة، نقص في العقل، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة، إن هذا لهو الضلال البعيد، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية، فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته، حيث وضع العقوبة موضعها، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه، ولما نفى عن رسوله أنه ليس له من الأمر شيء قرر من الأمر له فقال { ولله ما في السماوات وما في الأرض } من الملائكة والإنس والجن والحيوانات والأفلاك والجمادات كلها، وجميع ما في السماوات والأرض، الكل ملك لله مخلوقون مدبرون متصرف فيهم تصرف المماليك، فليس لهم مثقال ذرة من الملك، وإذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه فيغفر لمن يشاء بأن يهديه للإسلام فيغفر شركه ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه، { ويعذب من يشاء } بأن يكله إلى نفسه الجاهلة الظالمة المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك، ثم ختم الآية باسمين كريمين دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه وعميم إحسانه، فقال { والله غفور رحيم } ففيها أعظم بشارة بأن رحمته غلبت غضبه، ومغفرته غلبت مؤاخذته، فالآية فيها الإخبار عن حالة الخلق وأن منهم من يغفر الله له ومنهم من يعذبه، فلم يختمها باسمين أحدهما دال على الرحمة، والثاني دال على النقمة، بل ختمها باسمين كليهما يدل على الرحمة، فله تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده لا تخطر ببال بشر، ولا يدرك لها وصف، فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

تم السفر الأول من هذا التفسير المبارك بيسر من الله وإعانة، فله الحمد والشكر والثناء، وأسأله المزيد من فضله وكرمه وإحسانه، ويليه المجلد الثاني، أوله قول الباري جل جلاله { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } الآية وذلك في تسع وعشرين من شهر ربيع الأول من سنة 1343 ثلاث وأربعين وثلاث مئة وألف من الهجرة النبوية وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا بقلم جامعه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه وإخوانه المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

تم المجلد الأول بحمد الله

المجلد الثاني من تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين آمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا قال تعالى:


{ 130 - 136 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }

تقدم في مقدمة هذا التفسير أن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي في نفسه وفي غيره، وأن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه -أولا- أن يعرف حده، وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد، واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره، بحسب قدرته وإمكانه، وكذلك إذا نهي عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه، وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي، وهذه الآيات الكريمات قد اشتملت عن أوامر وخصال من خصال الخير، أمر الله [بها] وحث على فعلها، وأخبر عن جزاء أهلها، وعلى نواهي حث على تركها.

ولعل الحكمة -والله أعلم- في إدخال هذه الآيات أثناء قصة "أحد" أنه قد تقدم أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين، أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم، وخذل الأعداء عنهم، كما في قوله تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }

ثم قال: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } الآيات.

فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى، التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة، فذكر الله في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى، ويدل على ما قلنا أن الله ذكر لفظ "التقوى" في هذه الآيات ثلاث مرات: مرة مطلقة وهي قوله: { أعدت للمتقين } ومرتين مقيدتين، فقال: { واتقوا الله } { واتقوا النار } فقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } كل ما في القرآن من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } افعلوا كذا، أو اتركوا كذا، يدل على أن الإيمان هو السبب الداعي والموجب لامتثال ذلك الأمر، واجتناب ذلك النهي؛ لأن الإيمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية، ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من أنه إذا حل الدين، على المعسر ولم يحصل منه شيء، قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة، ويزيد ما في ذمتك، فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك، اغتناما لراحته الحاضرة، ، فيزداد -بذلك- ما في ذمته أضعافا مضاعفة، من غير نفع وانتفاع.

ففي قوله: { أضعافًا مضاعفة } تنبيه على شدة شناعته بكثرته، وتنبيه لحكمة تحريمه، وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم.

وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر، وبقاء ما في ذمته من غير زيادة، فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف، فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه، لأن تركه من موجبات التقوى.

والفلاح متوقف على التقوى، فلهذا قال: { واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين } بترك ما يوجب دخولها، من الكفر والمعاصي، على اختلاف درجاتها، فإن المعاصي كلها- وخصوصا المعاصي الكبار- تجر إلى الكفر، بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لأهله، فترك المعاصي ينجي من النار، ويقي من سخط الجبار، وأفعال الخير والطاعة توجب رضا الرحمن، ودخول الجنان، وحصول الرحمة، ولهذا قال: { وأطيعوا الله والرسول } بفعل الأوامر امتثالا، واجتناب النواهي { لعلكم ترحمون }

فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } الآيات.

ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف بطولها، التي أعدها الله للمتقين، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها، ثم وصف المتقين وأعمالهم، فقال: { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل.

{ والكاظمين الغيظ } أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.

{ والعافين عن الناس } يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: { فمن عفا وأصلح فأجره على الله }

ثم ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال [تعالى]: { والله يحب المحسنين } والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق. [والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق].

فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"

وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده.

ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم، فقال: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } أي: صدر منهم أعمال [سيئة] كبيرة، أو ما دون ذلك، بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم، وما توعد به العاصين ووعد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها، فلهذا قال: { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }

{ أولئك } الموصوفون بتلك الصفات { جزاؤهم مغفرة من ربهم } تزيل عنهم كل محذور { وجنات تجري من تحتها الأنهار } فيها من النعيم المقيم، والبهجة والسرور والبهاء، والخير والسرور، والقصور والمنازل الأنيقة العاليات، والأشجار المثمرة البهية، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات، { خالدين فيها } لا يحولون عنها، ولا يبغون بها بدلا، ولا يغير ما هم فيه من النعيم، { ونعم أجر العاملين } عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا فـ "عند الصباح يحمد القوم السرى" وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا.

وهذه الآيات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة، على أن الأعمال تدخل في الإيمان، خلافا للمرجئة، ووجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية، التي في سورة الحديد، نظير هذه الآيات، وهي قوله تعالى: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله، وهنا قال: { أعدت للمتقين } ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون.ثم قال تعالى:

{ 137 - 138 } { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ }

وهذه الآيات الكريمات، وما بعدها في قصة "أحد" يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة، امتحنوا، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة، حتى جعل الله العاقبة للمتقين، والنصر لعباده المؤمنين، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.

{ فسيروا في الأرض } بأبدانكم وقلوبكم { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية، قد خوت ديارهم، وتبين لكل أحد خسارهم، وذهب عزهم وملكهم، وزال بذخهم وفخرهم، أفليس في هذا أعظم دليل، وأكبر شاهد على صدق ما جاءت به الرسل؟"

وحكمة الله التي يمتحن بها عباده، ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم، ولهذا قال تعالى: { هذا بيان للناس } أي: دلالة ظاهرة، تبين للناس الحق من الباطل، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين.

{ وهدى وموعظة للمتقين } لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي، وأما باقي الناس فهي بيان لهم، تقوم [به] عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بينة.

ويحتمل أن الإشارة في قوله: { هذا بيان للناس } للقرآن العظيم، والذكر الحكيم، وأنه بيان للناس عموما، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا، وكلا المعنيين حق.


{ 139 - 143 } { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }

يقول تعالى مشجعا لعباده المؤمنين، ومقويا لعزائمهم ومنهضا لهممهم: { ولا تهنوا ولا تحزنوا } أي: ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه البلوى، فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وعون لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبكم وصبروها، وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك، ولهذا قال [تعالى]: { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }

ثم سلَّاهم بما حصل لهم من الهزيمة، وبيَّن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك، فقال: { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح، ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون }

ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يوم لهذه الطائفة، ويوم للطائفة الأخرى؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية، وهذا بخلاف الدار الآخرة، فإنها خالصة للذين آمنوا.

{ وليعلم الله الذين آمنوا } هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء، ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك.

{ ويتخذ منكم شهداء } وهذا أيضا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم، { والله لا يحب الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم، وتقاعدوا عن القتال في سبيله، وكأن في هذا تعريضا بذم المنافقين، وأنهم مبغضون لله، ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله.

{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين }

{ وليمحص الله الذين آمنوا } وهذا أيضا من الحكم أن الله يمحص بذلك المؤمنين من ذنوبهم وعيوبهم، يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله يكفر الذنوب، ويزيل العيوب، وليمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين، فيتخلصون منهم، ويعرفون المؤمن من المنافق، ومن الحكم أيضا أنه يقدر ذلك، ليمحق الكافرين، أي: ليكون سببا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة، فإنهم إذا انتصروا، بغوا، وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم، يستحقون به المعاجلة بالعقوبة، رحمة بعباده المؤمنين.

ثم قال تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } هذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله، فقال: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم، قال الله [تعالى] لهم: { فقد رأيتموه } أي: رأيتم ما تمنيتم بأعينكم { وأنتم تنظرون } فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن، خصوصا لمن تمنى ذلك، وحصل له ما تمنى، فإن الواجب عليه بذل الجهد، واستفراغ الوسع في ذلك.

وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها، والله أعلم.

ثم قال تعالى: { 144 - 145 } { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }

يقول تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي: ليس ببدع من الرسل، بل هو من جنس الرسل الذين قبله، وظيفتهم تبليغ رسالات ربهم وتنفيذ أوامره، ليسوا بمخلدين، وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله، بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال، ولهذا قال: { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد، أو غير ذلك.

قال [الله] تعالى: { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } إنما يضر نفسه، وإلا فالله تعالى غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين، فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه، مدح من ثبت مع رسوله، وامتثل أمر ربه، فقال: { وسيجزي الله الشاكرين } والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال.

وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم.

وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين.

ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن حتَّم عليه بالقدر أن يموت، مات ولو بغير سبب، ومن أراد بقاءه، فلو أتى من الأسباب كل سبب، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله، وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى: { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }

ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم، فقال: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها }

قال الله تعالى: { كلاًّ نمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }

{ وسنجزي الشاكرين } ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر، قلة وكثرة وحسنا.


{ 146 - 148 } { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

هذا تسلية للمؤمنين، وحث على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم، وأن هذا أمر قد كان متقدما، لم تزل سنة الله جارية بذلك، فقال: { وكأين من نبي } أي: وكم من نبي { قاتل معه ربيون كثير } أي: جماعات كثيرون من أتباعهم، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك.

{ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم، ولهذا قال: { والله يحب الصابرين }

ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم، فقال: { وما كان قولهم } أي: في تلك المواطن الصعبة { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } والإسراف: هو مجاوزة الحد إلى ما حرم، علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها.

ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر، بل اعتمدوا على الله، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين، وأن ينصرهم عليهم، فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، لا جرم أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: { فآتاهم الله ثواب الدنيا } من النصر والظفر والغنيمة، { وحُسن ثواب الآخرة } وهو الفوز برضا ربهم، والنعيم المقيم الذي قد سلم من جميع المنكدات، وما ذاك إلا أنهم أحسنوا له الأعمال، فجازاهم بأحسن الجزاء، فلهذا قال: { والله يحب المحسنين } في عبادة الخالق ومعاملة الخلق، ومن الإحسان أن يفعل عند جهاد الأعداء، كفعل هؤلاء الموصوفين

ثم قال تعالى:
{ 149 - 151 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }

وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين، فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إلا الشر، وهم [قصدهم] ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران.

ثم أخبر أنه مولاهم وناصرهم، ففيه إخبار لهم بذلك، وبشارة بأنه سيتولى أمورهم بلطفه، ويعصمهم من أنواع الشرور.

وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد، فمن ولايته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم، وقد فعل تعالى.

وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة "أحد" - تشاوروا بينهم، وقالوا: كيف ننصرف، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا، وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بذلك، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فانصرفوا خائبين، ولا شك أن هذا من أعظم النصر، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، وهذا من الثاني.

ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، فقال: { بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } أي: ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة، من غير حجة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأما في الآخرة فأشد وأعظم، ولهذا قال: { ومأواهم النار } أي: مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج، { وبئس مثوى الظالمين } بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:44 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 152-175 )
وهي مدنية

{ 152 } { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }

أي: { ولقد صدقكم الله وعده } بالنصر، فنصركم عليهم، حتى ولوكم أكتافهم، وطفقتم فيهم قتلا، حتى صرتم سببا لأنفسكم، وعونا لأعدائكم عليكم، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور { وتنازعتم في الأمر } الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف، فاختلفتم، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قائل: ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو، ولم يبق محذور، فعصيتم الرسول، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب، أعظم من غيره.

فالواجب في هذه الحال خصوصًا، وفي غيرها عموما، امتثال أمر الله ورسوله.

{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا.

{ ثم صرفكم عنهم } أي: بعدما وجدت هذه الأمور منكم، صرف الله وجوهكم عنهم، فصار الوجه لعدوكم، ابتلاء من الله لكم وامتحانا، ليتبين المؤمن من الكافر، والطائع من العاصي، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم، فلهذا قال: { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } أي: ذو فضل عظيم عليهم، حيث منَّ عليهم بالإسلام، وهداهم لشرائعه، وعفا عنهم سيئاتهم، وأثابهم على مصيباتهم.

ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة، إلا كان خيرا لهم. إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين، وإن أصابتهم ضراء فصبروا، جازاهم جزاء الصابرين.

{ 153 - 154 } { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ }

يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال، ويعاتبهم على ذلك، فقال: { إذ تصعدون } أي: تجدون في الهرب { ولا تلوون على أحد } أي: لا يلوي أحد منكم على أحد، ولا ينظر إليه، بل ليس لكم هم إلا الفرار والنجاء عن القتال.

والحال أنه ليس عليكم خطر كبير، إذ لستم آخر الناس مما يلي الأعداء، ويباشر الهيجاء، بل { الرسول يدعوكم في أخراكم } أي: مما يلي القوم يقول: "إليَّ عباد الله" فلم تلتفتوا إليه، ولا عرجتم عليه، فالفرار نفسه موجب للوم، ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس، أعظم لوما بتخلفكم عنها، { فأثابكم } أي: جازاكم على فعلكم { غما بغم } أي: غما يتبع غما، غم بفوات النصر وفوات الغنيمة، وغم بانهزامكم، وغم أنساكم كل غم، وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل.

ولكن الله -بلطفه وحسن نظره لعباده- جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم، فقال: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من النصر والظفر، { ولا ما أصابكم } من الهزيمة والقتل والجراح، إذا تحققتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم، وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم، وظواهركم وبواطنكم، ولهذا قال: { والله خبير بما تعملون }

ويحتمل أن معنى قوله: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } يعني: أنه قدَّر ذلك الغم والمصيبة عليكم، لكي تتوطن نفوسكم، وتمرنوا على الصبر على المصيبات، ويخف عليكم تحمل المشقات: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الذي أصابكم { أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم }

ولا شك أن هذا رحمة بهم، وإحسان وتثبيت لقلوبهم، وزيادة طمأنينة؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس.

وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين.

وأما الطائفة الأخرى الذين { قد أهمتهم أنفسهم } فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم، { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } وهذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر -أي: النصر والظهور- شيء، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله، قال الله في جوابهم: { قل إن الأمر كله لله } الأمر يشمل الأمر القدري، والأمر الشرعي، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وعاقبة النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته، وإن جرى عليهم ما جرى.

{ يخفون } يعني المنافقين { في أنفسهم ما لا يبدون لك } ثم بين الأمر الذي يخفونه، فقال: { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } أي: لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة { ما قتلنا هاهنا } وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر الله، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي أصحابه، وتزكية منهم لأنفسهم، فرد الله عليهم بقوله: { قل لو كنتم في بيوتكم } التي هي أبعد شيء عن مظان القتل { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } فالأسباب -وإن عظمت- إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، { وليبتلي الله ما في صدوركم } أي: يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان، { وليمحص ما في قلوبكم } من وساوس الشيطان، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة.

{ والله عليم بذات الصدور } أي: بما فيها وما أكنته، فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من الأسباب، ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر الأمور.

ثم قال تعالى:
{ 155 } { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم "أحد" وما الذي أوجب لهم الفرار، وأنه من تسويل الشيطان، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي، لأنها مركبه ومدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان.

قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم.

{ إن الله غفور } للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار، والمصائب المكفرة، { حليم } لا يعاجل من عصاه، بل يستأني به، ويدعوه إلى الإنابة إليه، والإقبال عليه.

ثم إن تاب وأناب قبل منه، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب، ولم يصدر منه عيب، فلله الحمد على إحسانه.


{ 156 - 158 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *

وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين، الذين لا يؤمنون بربهم، ولا بقضائه وقدره، من المنافقين وغيرهم.

ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء، وفي هذا الأمر الخاص وهو أنهم يقولون لإخوانهم في الدين أو في النسب: { إذا ضربوا في الأرض } أي: سافروا للتجارة { أو كانوا غزى } أي: غزاة، ثم جرى عليهم قتل أو موت، يعارضون القدر ويقولون: { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } وهذا كذب منهم، فقد قال تعالى: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } ولكن هذا التكذيب لم يفدهم، إلا أن الله يجعل هذا القول، وهذه العقيدة حسرة في قلوبهم، فتزداد مصيبتهم، وأما المؤمنون بالله فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله، فيؤمنون ويسلمون، فيهدي الله قلوبهم ويثبتها، ويخفف بذلك عنهم المصيبة.

قال الله ردا عليهم: { والله يحيي ويميت } أي: هو المنفرد بذلك، فلا يغني حذر عن قدر.

{ والله بما تعملون بصير } فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم.

ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه، ليس فيه نقص ولا محذور، وإنما هو مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون، لأنه سبب مفض وموصل إلى مغفرة الله ورحمته، وذلك خير مما يجمع أهل الدنيا من دنياهم، وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله، ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟"

{ 159 } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }

أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.

{ ولو كنت فظا } أي: سيئ الخلق { غليظ القلب } أي: قاسيه، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.

فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!

أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله.

ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان.

{ وشاورهم في الأمر } أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:

منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.

ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.

ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا، وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: { وشاورهم في الأمر } فكيف بغيره؟!

ثم قال تعالى: { فإذا عزمت } أي: على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة { فتوكل على الله } أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرئا من حولك وقوتك، { إن الله يحب المتوكلين } عليه، اللاجئين إليه.

{ 160 } { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم } فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.

{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.

وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } بتقديم المعمول يؤذن بالحصر، أي: على الله توكلوا لا على غيره، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.

وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله.

{ 161 } { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، [والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان] وهو محرم إجماعا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب. وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا، وأطهرهم نفوسا، وأزكاهم وأطيبهم، ونزههم عن كل عيب، وجعلهم محل رسالته، ومعدن حكمته { الله أعلم حيث يجعل رسالته }.

فبمجرد علم العبد بالواحد منهم، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم، لأن معرفته بنبوتهم، مستلزم لدفع ذلك، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم، فقال: { وما كان لنبي أن يغل } أي: يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته.

ثم ذكر الوعيد على من غل، فقال: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي: يأت به حامله على ظهره، حيوانا كان أو متاعا، أو غير ذلك، ليعذب به يوم القيامة، { ثم توفى كل نفس ما كسبت } الغال وغيره، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه، { وهم لا يظلمون } أي: لا يزاد في سيئاتهم، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة.

لما ذكر عقوبة الغال، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره.

{ 162 - 163 } { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان ربه، والعمل على ما يرضيه، كمن ليس كذلك، ممن هو مكب على المعاصي، مسخط لربه، هذان لا يستويان في حكم الله، وحكمة الله، وفي فطر عباد الله.

{ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } ولهذا قال هنا: { هم درجات عند الله } أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم.

فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات، والمنازل والغرفات، فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم، والمتبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين، كل على حسب عمله، والله تعالى بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء، بل قد علمها، وأثبتها في اللوح المحفوظ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام، أن يكتبوها ويحفظوها، ويضبطونها.


{ 164 } { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

هذه المنة التي امتن الله بها على عباده، أكبر النعم، بل أصلها، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، فقال: { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } يعرفون نسبه، وحاله، ولسانه، من قومهم وقبيلتهم، ناصحا لهم، مشفقا عليهم، يتلو عليهم آيات الله، يعلمهم ألفاظها ومعانيها.

{ ويزكيهم } من الشرك، والمعاصي، والرذائل، وسائر مساوئ الأخلاق.

و { يعلمهم الكتاب } إما جنس الكتاب الذي هو القرآن، فيكون قوله: { يتلو عليهم آياته } المراد به الآيات الكونية، أو المراد بالكتاب -هنا- الكتابة، فيكون قد امتن عليهم، بتعليم الكتاب والكتابة، التي بها تدرك العلوم وتحفظ، { والحكمة } هي: السنة، التي هي شقيقة القرآن، أو وضع الأشياء مواضعها، ومعرفة أسرار الشريعة.

فجمع لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفذ الأحكام، وما به تدرك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين، { وإن كانوا من قبل } بعثة هذا الرسول { لفي ضلال مبين } لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها، بل ما زين لهم جهلهم فعلوه، ولو ناقض ذلك عقول العالمين.

{ 165 - 168 } { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

هذا تسلية من الله تعالى لعباده المؤمنين، حين أصابهم ما أصابهم يوم "أحد" وقتل منهم نحو سبعين، فقال الله: إنكم { قد أصبتم } من المشركين { مثليها } يوم بدر فقتلتم سبعين من كبارهم وأسرتم سبعين، فليهن الأمر ولتخف المصيبة عليكم، مع أنكم لا تستوون أنتم وهم، فإن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار.

{ قلتم أنى هذا } أي: من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ { قل هو من عند أنفسكم } حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، فعودوا على أنفسكم باللوم، واحذروا من الأسباب المردية.

{ إن الله على كل شيء قدير } فإياكم وسوء الظن بالله، فإنه قادر على نصركم، ولكن له أتم الحكمة في ابتلائكم ومصيبتكم. { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض }

ثم أخبر أن ما أصابهم يوم التقى الجمعان، جمع المسلمين وجمع المشركين في "أحد" من القتل والهزيمة، أنه بإذنه وقضائه وقدره، لا مرد له ولا بد من وقوعه. والأمر القدري -إذا نفذ، لم يبق إلا التسليم له، وأنه قدره لحكم عظيمة وفوائد جسيمة، وأنه ليتبين بذلك المؤمن من المنافق، الذين لما أمروا بالقتال، { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله } أي: ذبا عن دين الله، وحماية له وطلبا لمرضاة الله، { أو ادفعوا } عن محارمكم وبلدكم، إن لم يكن لكم نية صالحة، فأبوا ذلك واعتذروا بأن { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } أي: لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم قتال لاتبعناكم، وهم كذبة في هذا. قد علموا وتيقنوا وعلم كل أحد أن هؤلاء المشركين، قد ملئوا من الحنق والغيظ على المؤمنين بما أصابوا منهم، وأنهم قد بذلوا أموالهم، وجمعوا ما يقدرون عليه من الرجال والعدد، وأقبلوا في جيش عظيم قاصدين المؤمنين في بلدهم، متحرقين على قتالهم، فمن كانت هذه حالهم، كيف يتصور أنهم لا يصير بينهم وبين المؤمنين قتال؟ خصوصا وقد خرج المسلمون من المدينة وبرزوا لهم، هذا من المستحيل، ولكن المنافقين ظنوا أن هذا العذر، يروج على المؤمنين، قال تعالى: { هم للكفر يومئذ } أي: في تلك الحال التي تركوا فيها الخروج مع المؤمنين { أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } وهذه خاصة المنافقين، يظهرون بكلامهم وفعالهم ما يبطنون ضده في قلوبهم وسرائرهم.

ومنه قولهم: { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } فإنهم قد علموا وقوع القتال.

ويستدل بهذه الآية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما، وفعل أدنى المصلحتين، للعجز عن أعلاهما" ؛ [لأن المنافقين أمروا أن يقاتلوا للدين، فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والأوطان] { والله أعلم بما يكتمون } فيبديه لعباده المؤمنين، ويعاقبهم عليه.

ثم قال تعالى: { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } أي: جمعوا بين التخلف عن الجهاد، وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره، قال الله ردًّا عليهم: { قل فادرءوا } أي: ادفعوا { عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا، لا تقدرون على ذلك ولا تستطيعونه.

وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة إيمان، وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الأخرى.

{ 169 - 171 } { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }

هذه الآيات الكريمة فيها فضيلة الشهداء وكرامتهم، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة، فقال: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } أي: في جهاد أعداء الدين، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله { أمواتا } أي: لا يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها، الذي يحذر من فواته، من جبن عن القتال، وزهد في الشهادة. { بل } قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون. فهم { أحياء عند ربهم } في دار كرامته.

ولفظ: { عند ربهم } يقتضي علو درجتهم، وقربهم من ربهم، { يرزقون } من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه، إلا من أنعم به عليهم، ومع هذا { فرحين بما آتاهم الله من فضله } أي: مغتبطين بذلك، قد قرت به عيونهم، وفرحت به نفوسهم، وذلك لحسنه وكثرته، وعظمته، وكمال اللذة في الوصول إليه، وعدم المنغص، فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق، ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله: فتم لهم النعيم والسرور، وجعلوا { يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } أي: يبشر بعضهم بعضا، بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم، وأنهم سينالون ما نالوا، { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي: يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور

{ يستبشرون بنعمة من الله وفضل } أي: يهنىء بعضهم بعضا، بأعظم مهنأ به، وهو: نعمة ربهم، وفضله، وإحسانه، { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } بل ينميه ويشكره، ويزيده من فضله، ما لا يصل إليه سعيهم.

وفي هذه الآيات إثبات نعيم البرزخ، وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم، وفيه تلاقي أرواح أهل الخير، وزيارة بعضهم بعضا، وتبشير بعضهم بعضا.

{ 172 - 175 } { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة، ندب أصحابه إلى الخروج، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله، وطاعة لله ولرسوله، فوصلوا إلى "حمراء الأسد" وجاءهم من جاءهم وقال لهم: { إن الناس قد جمعوا لكم } وهموا باستئصالكم، تخويفا لهم وترهيبا، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه.

{ وقالوا حسبنا الله } أي: كافينا كل ما أهمنا { ونعم الوكيل } المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.

{ فانقلبوا } أي: رجعوا { بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }

وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم، وندم من تخلف منهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم، واستمروا راجعين إلى مكة، ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل، حيث مَنَّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على ربهم، ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة، فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم، وتقواهم عن معصيته، لهم أجر عظيم، وهذا فضل الله عليهم.

ثم قال تعالى: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي: إن ترهيب من رهب من المشركين، وقال: إنهم جمعوا لكم، داع من دعاة الشيطان، يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم، أو ضعف. { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي: فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره، بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته.

وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:45 pm

3- تفسير سورة آل عمران عدد آياتها 200 ( آية 176-200 )
وهي مدنية

{ 176 - 177 } { وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الخلق، مجتهدا في هدايتهم، وكان يحزن إذا لم يهتدوا، قال الله تعالى: { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } من شدة رغبتهم فيه، وحرصهم عليه { إنهم لن يضروا الله شيئا } فالله ناصر دينه، ومؤيد رسوله، ومنفذ أمره من دونهم، فلا تبالهم ولا تحفل بهم، إنما يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم، بفوات الإيمان في الدنيا، وحصول العذاب الأليم في الأخرى، من هوانهم على الله وسقوطهم من عينه، وإرادته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من ثوابه. خذلهم فلم يوفقهم لما وفق له أولياءه ومن أراد به خيرا، عدلا منه وحكمة، لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى، ولا قابلين للرشاد، لفساد أخلاقهم وسوء قصدهم.

ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على الإيمان، ورغبوا فيه رغبة من بذل ما يحب من المال، في شراء ما يحب من السلع { لن يضروا الله شيئا } بل ضرر فعلهم يعود على أنفسهم، ولهذا قال: { ولهم عذاب أليم } وكيف يضرون الله شيئا، وهم قد زهدوا أشد الزهد في الإيمان، ورغبوا كل الرغبة بالكفر بالرحمن؟! فالله غني عنهم، وقد قيض لدينه من عباده الأبرار الأزكياء سواهم، وأعد له -ممن ارتضاه لنصرته- أهل البصائر والعقول، وذوي الألباب من الرجال الفحول، قال الله تعالى: { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } الآيات.

{ 178 } { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }

أي: ولا يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا، وعدم استئصالنا لهم، وإملاءنا لهم خير لأنفسهم، ومحبة منا لهم.

كلا، ليس الأمر كما زعموا، وإنما ذلك لشر يريده الله بهم، وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم، ولهذا قال: { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } فالله تعالى يملي للظالم، حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال.

{ 179 } { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

أي: ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التميز حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.

ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل [الله] رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم.

فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه.

{ 180 } { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أي: ولا يظن الذين يبخلون، أي: يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله، من المال والجاه والعلم، وغير ذلك مما منحهم الله، وأحسن إليهم به، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده، فبخلوا بذلك، وأمسكوه، وضنوا به على عباد الله، وظنوا أنه خير لهم، بل هو شر لهم، في دينهم ودنياهم، وعاجلهم وآجلهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي: يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح، "إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يأخذ بلهزمتيه يقول: أنا مالك، أنا كنزك" وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك، هذه الآية.

فهؤلاء حسبوا أن بخلهم نافعهم، ومجد عليهم، فانقلب عليهم الأمر، وصار من أعظم مضارهم، وسبب عقابهم.

{ ولله ميراث السماوات والأرض } أي: هو تعالى مالك الملك، وترد جميع الأملاك إلى مالكها، وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ولا دينار، ولا غير ذلك من المال.

قال تعالى: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب الغائي، الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله.

أخبر أولا: أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة، ليس ملكا للعبد، بل لولا فضل الله عليه وإحسانه، لم يصل إليه منه شيء، فمنعه لذلك منع لفضل الله وإحسانه؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى: { وأحسن كما أحسن الله إليك }

فمن تحقق أن ما بيده، فضل من الله، لم يمنع الفضل الذي لا يضره، بل ينفعه في قلبه وماله، وزيادة إيمانه، وحفظه من الآفات.

ثم ذكر ثانيا: أن هذا الذي بيد العباد كلها ترجع إلى الله، ويرثها تعالى، وهو خير الوارثين، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك.

ثم ذكر ثالثا: السبب الجزائي، فقال: { والله بما تعملون خبير } فإذا كان خبيرا بأعمالكم جميعها -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات، والعقوبات على الشر- لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب، ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب.

{ 181 - 182 } { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }

يخبر تعالى، عن قول هؤلاء المتمردين، الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها، وأسمجها، فأخبر أنه قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه، مع أفعالهم الشنيعة، وهو: قتلهم الأنبياء الناصحين، وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة، وأنه يقال لهم -بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء- { ذوقوا عذاب الحريق } المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة، وأن عذابهم ليس ظلما من الله لهم، فإنه { ليس بظلام للعبيد } فإنه منزه عن ذلك، وإنما ذلك بما قدمت أيديهم من المخازي والقبائح، التي أوجبت استحقاقهم العذاب، وحرمانهم الثواب.

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، تكلموا بذلك، وذكروا منهم "فنحاص بن عازوراء" من رؤساء علماء اليهود في المدينة، وأنه لما سمع قول الله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } { وأقرضوا الله قرضا حسنا } قال: -على وجه التكبر والتجرهم- هذه المقالة قبحه الله، فذكرها الله عنهم، وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم، بل قد سبق لهم من الشنائع ما هو نظير ذلك، وهو: { قتلهم الأنبياء بغير حق } هذا القيد يراد به، أنهم تجرأوا على قتلهم مع علمهم بشناعته، لا جهلا وضلالا، بل تمردا وعنادا.

{ 183 - 184 } { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }

يخبر تعالى عن حال هؤلاء المفترين القائلين: { إن الله عهد إلينا } أي: تقدم إلينا وأوصى، { ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } فجمعوا بين الكذب على الله، وحصر آية الرسل بما قالوه، من هذا الإفك المبين، وأنهم إن لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار، فهم -في ذلك- مطيعون لربهم، ملتزمون عهده، وقد علم أن كل رسول يرسله الله، يؤيده من الآيات والبراهين، ما على مثله آمن البشر، ولم يقصرها على ما قالوه، ومع هذا فقد قالوا إفكا لم يلتزموه، وباطلا لم يعملوا به، ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم: { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } الدالات على صدقهم { وبالذي قلتم } بأن أتاكم بقربان تأكله النار { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } أي: في دعواهم الإيمان برسول يأتي بقربان تأكله النار، فقد تبين بهذا كذبهم، وعنادهم وتناقضهم.

ثم سلَّى رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك } أي: هذه عادة الظالمين، ودأبهم الكفر بالله، وتكذيب رسل الله وليس تكذيبهم لرسل الله، عن قصور ما أتوا به، أو عدم تبين حجة، بل قد { جاءوا بالبينات } أي: الحجج العقلية، والبراهين النقلية، { والزبر } أي: الكتب المزبورة المنزلة من السماء، التي لا يمكن أن يأتي بها غير الرسل.

{ والكتاب المنير } للأحكام الشرعية، وبيان ما اشتملت عليه من المحاسن العقلية، ومنير أيضا للأخبار الصادقة، فإذا كان هذا عادتهم في عدم الإيمان بالرسل، الذين هذا وصفهم، فلا يحزنك أمرهم، ولا يهمنك شأنهم.

ثم قال تعالى: { 185 } { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }



هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر.

{ فمن زحزح } أي: أخرج، { عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أي: حصل له الفوز العظيم من العذاب الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ومفهوم الآية، أن من لم يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فإنه لم يفز، بل قد شقي الشقاء الأبدي، وابتلي بالعذاب السرمدي.

وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه، يفهم هذا من قوله: { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } أي: توفية الأعمال التامة، إنما يكون يوم القيامة، وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ، بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر }

{ 186 } { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }

يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات الواجبة والمستحبة، ومن التعريض لإتلافها في سبيل الله، وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس، كالجهاد في سبيل الله، والتعرض فيه للتعب والقتل والأسر والجراح، وكالأمراض التي تصيبه في نفسه، أو فيمن يحب.

{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من الطعن فيكم، وفي دينكم وكتابكم ورسولكم.

وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك، عدة فوائد:

منها: أن حكمته تعالى تقتضي ذلك، ليتميز المؤمن الصادق من غيره.

ومنها: أنه تعالى يقدر عليهم هذه الأمور، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم، ويكفر من سيئاتهم، وليزداد بذلك إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }

ومنها: أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه، فيهون عليهم حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجأون إلى الصبر والتقوى، ولهذا قال: { وإن تصبروا وتتقوا } أي: إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم، من الابتلاء والامتحان وعلى أذية الظالمين، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله والتقرب إليه، ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله.

{ فإن ذلك من عزم الأمور } أي: من الأمور التي يعزم عليها، وينافس فيها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى: { وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }

{ 187 - 188 } { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه [الله] الكتب وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه، ويوضح الحق من الباطل.

فأما الموفقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلموا الناس مما علمهم الله، ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفا من إثم الكتمان.

وأما الذين أوتوا الكتاب، من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم، فلم يعبأوا بها، فكتموا الحق، وأظهروا الباطل، تجرؤا على محارم الله، وتهاونا بحقوق الله، وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمنا قليلا، وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات، والأموال الحقيرة، من سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق، { فبئس ما يشترون } لأنه أخس العوض، والذي رغبوا عنه -وهو بيان الحق، الذي فيه السعادة الأبدية، والمصالح الدينية والدنيوية- أعظم المطالب وأجلها، فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا العالي النفيس، إلا لسوء حظهم وهوانهم، وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له.

ثم قال تعالى: { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } أي: من القبائح والباطل القولي والفعلي.

{ ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أي: بالخير الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه، فجمعوا بين فعل الشر وقوله، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه.

{ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي: بمحل نجوة منه وسلامة، بل قد استحقوه، وسيصيرون إليه، ولهذا قال: { ولهم عذاب أليم }

ويدخل في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم، ولم ينقادوا للرسول، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم، وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية، وفرح بها، ودعا إليها، وزعم أنه محق وغيره مبطل، كما هو الواقع من أهل البدع.

ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه، كما قال إبراهيم عليه السلام: { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } وقال: { سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين } وقد قال عباد الرحمن: { واجعلنا للمتقين إماما } وهي من نعم الباري على عبده، ومننه التي تحتاج إلى الشكر.

{ 189 } { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي: هو المالك للسماوات والأرض وما فيهما، من سائر أصناف الخلق، المتصرف فيهم بكمال القدرة، وبديع الصنعة، فلا يمتنع عليه منهم أحد، ولا يعجزه أحد.

{ 190 - 194 } { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }

يخبر تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها، والتبصر بآياتها، وتدبر خلقها، وأبهم قوله: { آيات } ولم يقل: "على المطلب الفلاني" إشارة لكثرتها وعمومها، وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين، ويقنع المتفكرين، ويجذب أفئدة الصادقين، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية، فأما تفصيل ما اشتملت عليه، فلا يمكن لمخلوق أن يحصره، ويحيط ببعضه، وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة، وانتظام السير والحركة، يدل على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه وشمول قدرته. وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنع، ولطائف الفعل، يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها، وسعة علمه. وما فيها من المنافع للخلق، يدل على سعة رحمة الله، وعموم فضله، وشمول بره، ووجوب شكره.

وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها، وبذل الجهد في مرضاته، وأن لا يشرك به سواه، ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

وخص الله بالآيات أولي الألباب، وهم أهل العقول؛ لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم.

ثم وصف أولي الألباب بأنهم { يذكرون الله } في جميع أحوالهم: { قياما وقعودا وعلى جنوبهم } وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب، ويدخل في ذلك الصلاة قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وأنهم { يتفكرون في خلق السماوات والأرض } أي: ليستدلوا بها على المقصود منها، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين، فإذا تفكروا بها، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا، فيقولون: { ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك } عن كل ما لا يليق بجلالك، بل خلقتها بالحق وللحق، مشتملة على الحق.

{ فقنا عذاب النار } بأن تعصمنا من السيئات، وتوفقنا للأعمال الصالحات، لننال بذلك النجاة من النار.

ويتضمن ذلك سؤال الجنة، لأنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم الجنة، ولكن لما قام الخوف بقلوبهم، دعوا الله بأهم الأمور عندهم، { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي: لحصوله على السخط من الله، ومن ملائكته، وأوليائه، ووقوع الفضيحة التي لا نجاة منها، ولا منقذ منها، ولهذا قال: { وما للظالمين من أنصار } ينقذونهم من عذابه، وفيه دلالة على أنهم دخلوها بظلمهم.

{ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أي: يدعو الناس إليه، ويرغبهم فيه، في أصوله وفروعه.

{ فآمنا } أي: أجبناه مبادرة، وسارعنا إليه، وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم، وتبجح بنعمته، وتوسل إليه بذلك، أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، والذي من عليهم بالإيمان، سيمن عليهم بالأمان التام.

{ وتوفنا مع الأبرار } يتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير، وترك الشر، الذي به يكون العبد من الأبرار، والاستمرار عليه، والثبات إلى الممات.

ولما ذكروا توفيق الله إياهم للإيمان، وتوسلهم به إلى تمام النعمة، سألوه الثواب على ذلك، وأن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر، والظهور في الدنيا، ومن الفوز برضوان الله وجنته في الآخرة، فإنه تعالى لا يخلف الميعاد، فأجاب الله دعاءهم، وقبل تضرعهم، فلهذا قال:

{ 195 } { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }

أي: أجاب الله دعاءهم، دعاء العبادة، ودعاء الطلب، وقال: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا، { بعضكم من بعض } أي: كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب، { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال، طلبا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله.

{ لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل.

{ والله عنده حسن الثواب } مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن أراد ذلك، فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه، بما يقدر عليه العبد.


{ 196 - 198 } { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ }

وهذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعمهم فيها، وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات، وأنواع العز، والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله { متاع قليل } ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا، ويعذبون عليه طويلا، هذه أعلى حالة تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه.

وأما المتقون لربهم، المؤمنون به- فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها }

فلو قدر أنهم في دار الدنيا، قد حصل لهم كل بؤس وشدة، وعناء ومشقة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، والسرور والحبور، والبهجة نزرا يسيرا، ومنحة في صورة محنة، ولهذا قال تعالى: { وما عند الله خير للأبرار } وهم الذين برت قلوبهم، فبرت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البر الرحيم من بره أجرا عظيما، وعطاء جسيما، وفوزا دائما.

{ 199 - 200 } { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

أي: وإن من أهل الكتاب طائفة موفقة للخير، يؤمنون بالله، ويؤمنون بما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وهذا الإيمان النافع لا كمن يؤمن ببعض الرسل والكتب، ويكفر ببعض.

ولهذا -لما كان إيمانهم عاما حقيقيا- صار نافعا، فأحدث لهم خشية الله، وخضوعهم لجلاله الموجب للانقياد لأوامره ونواهيه، والوقوف عند حدوده.

وهؤلاء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة، كما قال تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ومن تمام خشيتهم لله، أنهم { لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا } فلا يقدمون الدنيا على الدين كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا قليلا، وأما هؤلاء فعرفوا الأمر على الحقيقة، وعلموا أن من أعظم الخسران، الرضا بالدون عن الدين، والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية، وترك الحق الذي هو: أكبر حظ وفوز في الدنيا والآخرة، فآثروا الحق وبينوه، ودعوا إليه، وحذروا عن الباطل، فأثابهم الله على ذلك بأن وعدهم الأجر الجزيل، والثواب الجميل، وأخبرهم بقربه، وأنه سريع الحساب، فلا يستبطؤون ما وعدهم الله، لأن ما هو آت محقق حصوله، فهو قريب.

ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح - وهو: الفوز والسعادة والنجاح، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، من ترك المعاصي، ومن الصبر على المصائب، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك.

والمصابرة أي الملازمة والاستمرار على ذلك، على الدوام، ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال.

والمرابطة: وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه، وأن يراقبوا أعداءهم، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم، لعلهم يفلحون: يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي، وينجون من المكروه كذلك.

فعلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات، فلم يفلح من أفلح إلا بها، ولم يفت أحدا الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها.

والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به.

تم تفسير "سورة آل عمران" والحمد لله على نعمته، ونسأله تمام النعمة.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:46 pm

4- تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ( آية 1-25 )
وهي مدنية

{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }

افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه، والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك.

وبيَّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك، وأن الموجب لتقواه لأنه { رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } ورزقكم، ورباكم بنعمه العظيمة، التي من جملتها خلقكم { مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم بـها بالسؤال بالله. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه.

وكذلك الإخبار بأنه رقيب، أي: مطلع على العباد في حال حركاتـهم وسكونـهم، وسرهم وعلنهم، وجميع أحوالهم، مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته، وشدة الحياء منه، بلزوم تقواه.

وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض، مع رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف بعضهم على بعض، ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به.

وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عموما، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها. فكأنـها مبنية على هذه الأمور المذكورة، مفصلة لما أجمل منها، موضحة لما أبهم.

وفي قوله: { وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا } تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب علاقة.


وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا }

وقوله تعالى: { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين لهم، وهم صغار ضعاف لا يقومون بمصالحهم.

فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا، كاملة موفرة، وأن لا { تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ } الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. { بِالطَّيِّبِ } وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة. { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي: مع أموالكم، ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة، فقد أتى { حُوبًا كَبِيرًا } أي: إثمًا عظيمًا، ووزرًا جسيمًا.

ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس، ويجعل بدله من ماله الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم، لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله، ثبوت ولاية المؤتي على ماله.

وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.

{ 3 - 4 } { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }

أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم وخفتم أن لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن، فاعدلوا إلى غيرهن، وانكحوا { مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } أي: ما وقع عليهن اختياركم من ذوات الدين، والمال، والجمال، والحسب، والنسب، وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن، فاختاروا على نظركم، ومن أحسن ما يختار من ذلك صفة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك"

وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان أن يختار قبل النكاح، بل وقد أباح له الشارع النظر إلى مَنْ يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل، أو ثلاثا فليفعل، أو أربعا فليفعل، ولا يزيد عليها، لأن الآية سيقت لبيان الامتنان، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا.

وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة، فأبيح له واحدة بعد واحدة، حتى يبلغ أربعا، لأن في الأربع غنية لكل أحد، إلا ما ندر، ومع هذا فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم، ووثق بالقيام بحقوقهن.

فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة، أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم في ملك اليمين { ذَلِك } أي: الاقتصار على واحدة أو ما ملكت اليمين { أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } أي: تظلموا.

وفي هذا أن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم، وعدم القيام بالواجب -ولو كان مباحًا- أنه لا ينبغي له أن يتعرض، له بل يلزم السعة والعافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد.

ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونـهن حقوقهن، خصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرًا، ودفعة واحدة، يشق دفعه للزوجة، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء { صَدُقَاتِهِنَّ } أي: مهورهن { نِحْلَةً } أي: عن طيب نفس، وحال طمأنينة، فلا تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا. وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة، وأنـها تملكه بالعقد، لأنه أضافه إليها، والإضافة تقتضي التمليك.

{ فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ } أي: من الصداق { نَفْسًا } بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة.

وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع- إذا كانت رشيدة، فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء، غير ما طابت به.

وفي قوله: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به، بل منهي عنه كالمشركة، وكالفاجرة، كما قال تعالى: { وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وقال: { وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }


{ 5 } { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا }

وقوله تعالى: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا } السفهاء: جمع "سفيه" وهو: من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه، ونحوهما، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد. فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، لأن الله جعل الأموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم، ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولا معروفا، بأن يعدوهم -إذا طلبوها- أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم، ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبرًا لخواطرهم.

وفي إضافته تعالى الأموال إلى الأولياء، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للأخطار. وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه في مالهم، إذا كان لهم مال، لقوله: { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ }

وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة والكسوة؛ لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول الأمين.


{ 6 } { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا }

الابتلاء: هو الاختبار والامتحان، وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد، الممكن رشده، شيئا من ماله، ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله، فيتبين بذلك رشده من سفهه، فإن استمر غير محسن للتصرف لم يدفع إليه ماله، بل هو باق على سفهه، ولو بلغ عمرا كثيرا.

فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } كاملة موفرة. { وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا } أي: مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم من أموالكم، إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم.

{ وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } أي: ولا تأكلوها في حال صغرهم التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم، ولا منعكم من أكلها، تبادرون بذلك أن يكبروا، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها.

وهذا من الأمور الواقعة من كثير من الأولياء، الذين ليس عندهم خوف من الله، ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم، يرون هذه الحال حال فرصة فيغتنمونها ويتعجلون ما حرم الله عليهم، فنهى الله تعالى عن هذه الحالة بخصوصها.

{ 7 } { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا }

كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على ذلك النفوس.

فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة، فقال: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } : أي: قسط وحصة { مِمَّا تَرَكَ } أي: خلف { الْوَالِدَان } أي: الأب والأم { وَالْأَقْرَبُونَ } عموم بعد خصوص { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ }

فكأنه قيل: هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى: { نَصِيبًا مَفْرُوضًا } : أي: قد قدره العليم الحكيم. وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك.

وأيضا فهاهنا توهم آخر، لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } فتبارك الله أحسن الحاكمين.


{ 8 } { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا }

وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي: قسمة المواريث { أُولُو الْقُرْبَى } أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: { الْقِسْمَةَ } لأن الوارثين من المقسوم عليهم. { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين } أي: المستحقون من الفقراء. { فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم.

ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال.

وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم { قَولًا مَعْرُوفًا } يردوهم ردًّا جميلا، بقول حسن غير فاحش ولا قبيح.


{ 9 - 10 } { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }

قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها، بدليل قوله: { وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } أي: سدادا، موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم.

وقيل: إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } في ولايتهم لغيرهم، أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله، من عدم إهانتهم والقيام عليهم، وإلزامهم لتقوى الله.

ولما أمرهم بذلك، زجرهم عن أكل أموال اليتامى، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } أي: بغير حق. وهذا القيد يخرج به ما تقدم، من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى.

فمَنْ أكلها ظلمًا فـ { إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } أي: فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم. { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي: نارًا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.


{ 11 - 12 } { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }

هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري "ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" - مشتملات على جل أحكام الفرائض، بل على جميعها كما سترى ذلك، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، مع إجماع العلماء على ذلك.

فقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أي: أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.

وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم، عليهم.

ثم ذكر كيفية إرثهم فقال: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } أي: الأولاد للصلب، والأولاد للابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، إن لم يكن معهم صاحب فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك، وقد أجمع العلماء على ذلك، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا، هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور، وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث، وقد ذكره بقوله: { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أي: بنات صلب أو بنات ابن، ثلاثا فأكثر { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة } أي: بنتا أو بنت ابن { فَلَهَا النِّصْفُ } وهذا إجماع.

بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟

فالجواب أنه يستفاد من قوله: { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضا فقوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } إذا خلَّف ابنًا وبنتًا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين.

وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررًا عليها من أختها، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى.

وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين: { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } نص في الأختين الثنتين.

فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح.

بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله: { فَوْقَ اثْنَتَيْن } ؟. قيل: الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا. ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين.

ومثل ذلك بنت الابن، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها.

وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم. فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين، وهو خلاف النص.

وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد.

ودل قوله: { مِمَّا تَرَكَ } أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته، وحتى الديون التي في الذمم

ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: { وَلِأَبَوَيْهِ } أي: أبوه وأمه { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو متعددًا.

فأما الأُم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد.

وأما الأب فمع الذكور منهم، لا يستحق أزيد من السدس، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا، والباقي تعصيبًا، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما.

{ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأُم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأُم، فدل ذلك على أن الباقي للأب.

وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له، بل يرث تعصيبا المال كله، أو ما أبقت الفروض، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأُم ثلث الباقي والأب الباقي.

وقد دل على ذلك قوله: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأُم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال: إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا.

ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين.

ولأنا لو أعطينا الأُم ثلث المال، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس، وهذا لا نظير له، فإن المعهود مساواتها للأب، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم.

{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قوله: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال، وهو معدوم، والله أعلم] ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر، ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الإخوة" بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد، لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين.

وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وقال في الإخوة للأُم: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }

فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع. فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا وإخوة، كان للأُم السدس، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث، مع حجب الأب إياهم [إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب]

ثم قال تعالى: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي: هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة.

وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة، وإلا فالديون مقدمة عليها، وتكون من رأس المال.

وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة، قال تعالى: { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا }

فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية.

{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال.

ثم قال تعالى: { وَلَكُمْ } أيها الأزواج { نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }

ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأُنثى، الواحد والمتعدد، الذي من الزوج أو من غيره، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا.

ثم قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي: من أم، كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأُم، فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد أي: لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد.

{ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } أي: من الأخ والأخت { السُّدُسُ }، { فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } أي: من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أي: لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله: { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء، لأن لفظ "التشريك" يقتضي التسوية.

ودل لفظ { الْكَلَالَةِ } على أن الفروع وإن نزلوا، والأصولَ الذكور وإن علوا، يُسقطون أولاد الأُم، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، فلو لم يكن يورث كلالة، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا.

ودل قوله: { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء. للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأُم، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه. وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: - "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء، فيَسْقُط الأشقاء، وهذا هو الصواب في ذلك.

وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، فمذكور في قوله: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } الآية.

فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف، والثنتان لهما الثلثان، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب وهو السدس تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن. وإن كان الإخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين.

فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل، والرقيق، والمخالف في الدين، والمبعض، والخنثى، والجد مع الإخوة لغير أم، والعول، والرد، وذوي الأرحام، وبقية العصبة، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا؟

قيل: نعم، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي.

وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله: { لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه بأعظم الضرر، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"

وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة.

قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين [انتهى].

وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث، أما كونه لا يورث فواضح، لأنه ليس له مال يورث عنه، بل كل ما معه فهو لسيده. وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك، فإنه لو ملك لكان لسيده، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن } { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ونحوها لمن يتأتى منه التملك، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك، فعلم أنه لا ميراث له. وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك، فإذا يكون المبعض، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما، مثابا ومعاقبا، بقدر ما فيه من موجبات ذلك، فهذا كذلك. وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته، أو مشكلا. فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح.

إن كان ذكرا فله حكم الذكور، ويشمله النص الوارد فيهم.

وإن كان أنثى فله حكم الإناث، ويشملها النص الوارد فيهن.

وإن كان مشكلا، فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك، لم نعطه أكثر التقديرين، لاحتمال ظلم من معه من الورثة، ولم نعطه الأقل، لاحتمال ظلمنا له. فوجب التوسط بين الأمرين، وسلوكُ أعدل الطريقين، قال تعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور. و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }

وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وهل يرثون معه أم لا؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم، كما يحجبهم الأب.

وبيان ذلك: أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } الآية. وقال يوسف عليه السلام: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }

فسمى الله الجد وجد الأب أبا، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب، يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه.

وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم، وسائر أحكام المواريث، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم.

وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح.

وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء، وهم بين حالتين:

إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو، إما أن لا تستغرق الفروض التركة، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص، أو تزيد الفروض على التركة، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين:

إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له، ونكمل للباقين منهم فروضهم، وهذا ترجيح بغير مرجح، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر، فتعينت الحال الثانية، وهي: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه.

وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل، ومعارضة لقوله: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم.

ولما كان الزوجان ليسا من القرابة، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد، وهم جمهور القائلين بالرد، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا، وعلى القول الآخر، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة، والقياس الصحيح، والله أعلم]

وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم، ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره، فتعين توريث ذوي الأرحام.

وإذا تعين توريثهم، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط، صاروا بسببها من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم.

وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر" وقال تعالى: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء، لم يستحق العاصب شيئًا، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم.

فإن جهات العصوبة خمس: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة وبنوهم، ثم العمومة وبنوهم، ثم الولاء، فيقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، وهو الشقيق، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم.

وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات، يأخذن ما فضل عن فروضهن، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات.

فإذا كان الأمر كذلك، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن، كابن الأخ والعم، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.


{ 13 - 14 } { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ }

أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين.

ثم قوله تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في هذا التعدي، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه الشرك بالله، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } فمن أدى الأوامر واجتنب النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار. { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه، والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون.

{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله. ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب.

ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه، دخل النار وخلد فيها، ومن اجتمع فيه معصية وطاعة، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد، غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها.



{ 15 - 16 } { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا }

أي: النساء { اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } أي: الزنا، ووصفها بالفاحشة لشناعتها وقبحها.

{ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } أي: من رجالكم المؤمنين العدول. { فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } أي: احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة. وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ } أي: هذا منتهى الحبس. { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } أي: طريقا غير الحبس في البيوت، وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا، وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن.

{ و } كذلك { الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا } أي: الفاحشة { مِنْكُمْ } من الرجال والنساء { فَآذُوهُمَا } بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون، والنساء يحبسن ويؤذين.

فالحبس غايته إلى الموت، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح، ولهذا قال: { فَإِنْ تَابَا } أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه، وعزما على أن لا يعودا { وَأَصْلَحَا } العمل الدال على صدق التوبة { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي: عن أذاهما { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي: كثير التوبة على المذنبين الخطائين، عظيم الرحمة والإحسان، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم، وسامحهم عن ما صدر منهم.

ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة، سترًا لعباده، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات، ولا مع الرجال، ولا ما دون أربعة.

ولا بد من التصريح بالشهادة، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وتومئ إليه هذه الآية لما قال: { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال: { فَإِنْ شَهِدُوا } أي: لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا، من غير تعريض ولا كناية.

ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر.


{ 17 - 18 } { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }

توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي: المعاصي { بِجَهَالَةٍ } أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا. وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } الآية. وقال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }

وقال هنا:

{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي: المعاصي فيما دون الكفر. { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله: { مِنْ قَرِيبٍ } أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة.

والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة.

نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:47 pm

4- تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ( آية 26-50 )
وهي مدنية

{ 26 - 28 } { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }

يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل.

{ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده.

ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك.

وقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة.

وقوله: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: توبة تلم شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتقرب بعيدكم.

{ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } أي: يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكفرة والعاصين، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } أي: [أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.

يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين.

{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي: بسهولة ما أمركم به و [ما] نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته.

{ 29 - 30 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة. بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف، لأن هذا من الباطل وليس من الحق.

ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره.

{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود.

وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله: { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله: "لا يأكل بعضكم مال بعض" و "لا يقتل بعضكم بعضًا" مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط.

مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية.

ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم، على الآكل، ومن أخذ ماله، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات، وأنواع الحرف والإجارات، فقال: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي: فإنها مباحة لكم.

وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة، بل مخالف لمقصودها، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا.

ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده.

وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد. ثم ختم الآية بقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها.

(30) ثم قال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي: أكل الأموال بالباطل وقتل النفوس { عُدْوَانًا وَظُلْمًا } أي: لا جهلا ونسيانا { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا } أي: عظيمة كما يفيده التنكير { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }

{ 31 } { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا }

وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصوم رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" .

وأحسن ما حُدت به الكبائر، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه.

{ 32 } { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }

ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها. ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب. وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية، ويسأل الله تعالى من فضله، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه. ولهذا قال تعالى: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا } أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه. { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا. فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل، أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر.

وقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } فيعطي من يعلمه أهلا لذلك، ويمنع من يعلمه غير مستحق.

{ 33 } { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }

أي: { وَلِكُلٍّ } من الناس { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي: يتولونه ويتولاهم بالتعزز والنصرة والمعاونة على الأمور. { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وهذا يشمل سائر الأقارب من الأصول والفروع والحواشي، هؤلاء الموالي من القرابة.

ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي: حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة والاشتراك بالأموال وغير ذلك. وكل هذا من نعم الله على عباده، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا.

قال تعالى: { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي: آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله. والميراث للأقارب الأدنين من الموالي.

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } أي: مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور، وبصره لحركات عباده، وسمعه لجميع أصواتهم.

{ 34 } { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا }

يخبر تعالى أن الرِّجَال { قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } أي: قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق عليهن، والكسوة والمسكن، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء فقال: { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي: بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات مختصة بالرجال، والنبوة، والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع. وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله. وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء.

ولعل هذا سر قوله: { وَبِمَا أَنْفَقُوا } وحذف المفعول ليدل على عموم النفقة. فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لامرأته، وهي عنده عانية أسيرة خادمة،فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به.

ووظيفتها: القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ } أي: مطيعات لله تعالى { حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } أي: مطيعات لأزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله، وذلك بحفظ الله لهن وتوفيقه لهن، لا من أنفسهن، فإن النفس أمارة بالسوء، ولكن من توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه.

ثم قال: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي: ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل، { فَعِظُوهُنَّ } أي: ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة، والترهيب من معصيته، فإن انتهت فذلك المطلوب، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم { فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } أي: فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر.

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } أي: له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم، كبير الذات والصفات.

{ 35 } { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا }

أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } أي: رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق. وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لأنه لا يصلح حكما إلا من اتصف بتلك الصفات.

فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه، ثم يلزمان كلا منهما ما يجب، فإن لم يستطع أحدهما ذلك، قنَّعا الزوج الآخر بالرضا بما تيسر من الرزق والخلق، ومهما أمكنهما الجمع والإصلاح فلا يعدلا عنه.

فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماعهما وإصلاحهما إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية الله، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح، فرقا بينهما. ولا يشترط رضا الزوج، كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين، والحكم يحكم ولو لم يرض المحكوم عليه، ولهذا قال: { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } أي: بسبب الرأي الميمون والكلام الذي يجذب القلوب ويؤلف بين القرينين.

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } أي: عالمًا بجميع الظواهر والبواطن، مطلعا على خفايا الأمور وأسرارها. فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة والشرائع الجميلة.


{ 36 - 38 } { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا }

يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رق عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة.

وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد. ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب. فقال: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما. وللإحسان ضدان، الإساءةُ وعدمُ الإحسان. وكلاهما منهي عنه.

{ وَبِذِي الْقُرْبَى } أيضا إحسانا، ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله.

{ وَالْيَتَامَى } أي: الذين فقدوا آباءهم وهم صغار، فلهم حق على المسلمين، سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم.

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر، فلم يحصلوا على كفايتهم، ولا كفاية من يمونون، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه.

{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي: الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف. { و } كذلك { الْجَارِ الْجُنُبِ } أي: الذي ليس له قرابة. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل.

{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قيل: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل الصاحب مطلقا، ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة. فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له؛ والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد.

{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو: الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [وبإكرامه وتأنيسه]

{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : أي: من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم. فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد الله، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع للخلق، بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا } أي: معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق { فَخُورًا } يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله، فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق. ولهذا ذمهم بقوله: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } بأقوالهم وأفعالهم { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق. فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين، فلهذا قال تعالى: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } أي: كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل وعدم الاهتداء، أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم. فعياذًا بك اللهم من كل سوء.

ثم أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال: { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } أي: ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم { وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } أي: ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه. أي: فهذا من خطوات الشيطان وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير. وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها فلهذا قال: { وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } أي: بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ويسعى فيه أشد السعي.

فكما أن من بخل بما آتاه الله، وكتم ما مَنَّ به الله عليه عاص آثم مخالف لربه، فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم عاص لربه مستوجب للعقوبة، لأن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه الإخلاص، كما قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى عليه بقوله:

{ 39 } { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا }

أي: أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم الإيمان بالله الذي هو الإخلاص، وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم فجمعوا بين الإخلاص والإنفاق، ولما كان الإخلاص سرًّا بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه إلا الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: { وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا }


{ 40 - 42 } { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }

يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله وتنزهه عما يضاد ذلك من الظلم القليل والكثير فقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي: ينقصها من حسنات عبده أو يزيدها في سيئاته، كما قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }

{ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أي: إلى عشرة أمثالها، إلى أكثر من ذلك، بحسب حالها ونفعها وحال صاحبها، إخلاصا ومحبة وكمالا.

{ وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } أي: زيادة على ثواب العمل بنفسه من التوفيق لأعمال أخر، وإعطاء البر الكثير والخير الغزير.

ثم قال تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } أي: كيف تكون تلك الأحوال، وكيف يكون ذلك الحكم العظيم، الذي جمع أن من حكم به كاملُ العلم، كاملُ العدل، كامل الحكمة، بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه؟" فهذا -والله- الحكم الذي هو أعم الأحكام وأعدلها وأعظمها.

وهناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له لكمال الفضل والعدل، والحمد والثناء. وهناك يسعد أقوام بالفوز والفلاح والعز والنجاح. ويشقى أقوام بالخزي والفضيحة والعذاب المهين.

ولهذا قال: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ } أي: جمعوا بين الكفر بالله وبرسوله، ومعصيةِ الرسول { لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } أي: تبتلعهم ويكونون ترابا وعدما، كما قال تعالى: { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا }. { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أي: بل يقرون له بما عملوا، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله جزاءهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين.

فأما ما ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم، فإن ذلك يكون في بعض مواضع القيامة، حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب الله، فإذا عرفوا الحقائق وشهدت عليهم جوارحهم حينئذ ينجلي الأمر، ولا يبقى للكتمان موضع، ولا نفع ولا فائدة.


{ 43 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، حتى يعلموا ما يقولون، وهذا شامل لقربان مواضع الصلاة، كالمسجد، فإنه لا يمكَّن السكران من دخوله. وشامل لنفس الصلاة، فإنه لا يجوز للسكران صلاة ولا عبادة، لاختلاط عقله وعدم علمه بما يقول، ولهذا حدد تعالى ذلك وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران. وهذه الآية الكريمة منسوخة بتحريم الخمر مطلقا، فإن الخمر -في أول الأمر- كان غير محرم، ثم إن الله تعالى عرض لعباده بتحريمه بقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }

ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلاة كما في هذه الآية، ثم إنه تعالى حرمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } الآية.

ومع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلاة لتضمنه هذه المفسدة العظيمة، بعد حصول مقصود الصلاة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع وحضور القلب، فإن الخمر يسكر القلب، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلاة في حال النعاس المفرط، الذي لا يشعر صاحبه بما يقول ويفعل، بل لعل فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره، كمدافعة الأخبثين والتوق لطعام ونحوه كما ورد في ذلك الحديث الصحيح.

ثم قال: { وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } أي: لا تقربوا الصلاة حالة كون أحدكم جنبا، إلا في هذه الحال وهو عابر السبيل أي: تمرون في المسجد ولا تمكثون فيه، { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } أي: فإذا اغتسلتم فهو غاية المنع من قربان الصلاة للجنب، فيحل للجنب المرور في المسجد فقط.

{ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا }

فأباح التيمم للمريض مطلقًا مع وجود الماء وعدمه، والعلة المرض الذي يشق معه استعمال الماء، وكذلك السفر فإنه مظنة فقد الماء، فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب ونحوه، جاز له التيمم.

وكذلك إذا أحدث الإنسان ببول أو غائط أو ملامسة النساء، فإنه يباح له التيمم إذا لم يجد الماء، حضرًا وسفرًا كما يدل على ذلك عموم الآية. والحاصل: أن الله تعالى أباح التيمم في حالتين:

حال عدم الماء، وهذا مطلقا في الحضر والسفر، وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه.

واختلف المفسرون في معنى قوله: { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هل المراد بذلك: الجماع فتكون الآية نصا في جواز التيمم للجنب، كما تكاثرت بذلك الأحاديث الصحيحة؟ أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد، ويقيد ذلك بما إذا كان مظنة خروج المذي، وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون الآية دالة على نقض الوضوء بذلك؟

واستدل الفقهاء بقوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } بوجوب طلب الماء عند دخول الوقت، قالوا: لأنه لا يقال: "لم يجد" لمن لم يطلب، بل لا يكون ذلك إلا بعد الطلب، واستدل بذلك أيضا على أن الماء المتغير بشيء من الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } وهذا ماء. ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر.

وفي هذه الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله على هذه الأمة، وهو مشروعية التيمم، وقد أجمع على ذلك العلماء ولله الحمد، وأن التيمم يكون بالصعيد الطيب، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان له غبار أم لا، ويحتمل أن يختص ذلك بذي الغبار لأن الله قال: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وما لا غبار له لا يمسح به.

وقوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } هذا محل المسح في التيمم: الوجه جميعه واليدان إلى الكوعين، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ويستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة، كما دل على ذلك حديث عمار، وفيه أن تيمم الجنب كتيمم غيره، بالوجه واليدين.

فائدة

اعلم أن قواعد الطب تدور على ثلاث قواعد: حفظ الصحة عن المؤذيات، والاستفراغ منها، والحمية عنها. وقد نبه تعالى عليها في كتابه العزيز.

أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي، فقد أمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف في ذلك، وأباح للمسافر والمريض الفطر حفظا لصتحهما، باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل، وحماية للمريض عما يضره.

وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للمحْرِم المتأذي برأسه أن يحلقه لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه، ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها من البول والغائط والقيء والمني والدم، وغير ذلك، نبه على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى.

وفي الآية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين، وأنه يجوز التيمم ولو لم يضق الوقت، وأنه لا يخاطب بطلب الماء إلا بعد وجود سبب الوجوب والله أعلم.

ثم ختم الآية بقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } أي: كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين، بتيسير ما أمرهم به، وتسهيله غاية التسهيل، بحيث لا يشق على العبد امتثاله، فيحرج بذلك.

ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه الأمة بشرع طهارة التراب بدل الماء، عند تعذر استعماله. ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم. ومن عفوه ومغفرته أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا، لأتاه بقرابها مغفرة.



{ 44 - 46 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ *وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

هذا ذم لمن { أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم، والوقوع في أشراكهم، فأخبر أنهم في أنفسهم { يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ } أي: يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه. فيؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان، والشقاء على السعادة، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } .

فهم حريصون على إضلالكم غاية الحرص، باذلون جهدهم في ذلك .ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال، ولهذا قال: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } أي: يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر.

ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي: اليهود وهم علماء الضلال منهم.

{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره، وكتمانهم ذلك.

فهذا حالهم في العلم أشر حال، قلبوا فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم { يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون: { اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره، { وَرَاعِنَا } قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ }

ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم، ولهذا قال: { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

{ 47 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }

يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم، المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها، فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر.

وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا، ويوافق بعضها بعضًا. فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا يمكن صدقها.

وفي قوله: { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } وهذا جزاء من جنس ما عملوا، كما تركوا الحق، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقا والحق باطلا، جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق، وردها على أدبارها، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } بأن يطردهم من رحمته، ويعاقبهم بجعلهم قردة، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } كقوله: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

{ 48 } { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }

يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه.

فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة، كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين. ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد.

وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئا، وما لهم يوم القيامة { مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ }

ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أي: افترى جرما كبيرا، وأي: ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الفقير بذاته من كل وجه، الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا- بالخالق لكل شيء، الكامل من جميع الوجوه، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع، الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟

ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب، وأما التائب، فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أي: لمن تاب إليه وأناب.

{ 49 - 50 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا }

هذا تعجيب من الله لعباده، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود والنصارى، ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه. وذلك أن اليهود والنصارى يقولون: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } ويقولون: { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وهذا مجرد دعوى لا برهان عليها، وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فهؤلاء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا: { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي: بالإيمان والعمل الصالح بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، والتحلي بالصفات الجميلة.

وأما هؤلاء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء، وأن الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة في ذلك، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب، بسبب ظلمهم وكفرهم لا بظلم من الله لهم، ولهذا قال: { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } وهذا لتحقيق العموم أي: لا يظلمون شيئا ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها.

قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } أي: بتزكيتهم أنفسهم، لأن هذا من أعظم الافتراء على الله. لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم الإخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون المسلمون باطلا. وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا، والباطلِ حقًّا. ولهذا قال: { وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } أي: ظاهرا بينا موجبا للعقوبة البليغة والعذاب الأليم.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:48 pm

4- تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ( آية 51-75 )
وهي مدنية

{ 51 - 57 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }

وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله.

فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعباده غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: { هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم" كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟" هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا هو الواقع، ولهذا قال تعالى عنهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي: طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته. { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } أي: يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره، وهذا غاية الخذلان.

{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ } أي: فيفضِّلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة، فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل، ولهذا قال: { فَإِذًا } أي: لو كان لهم نصيب من الملك { لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } أي: شيئًا ولا قليلا. وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله. وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد.

{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي: هل الحامل لهم على قولهم كونهم شركاءَ لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على ذلك الحسدُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس ببدع ولا غريب على فضل الله. { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه كـ "داود" و "سليمان" . فإنعامه لم يزل مستمرًا على عباده المؤمنين. فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له؟"

{ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم فنال بذلك السعادة الدنيوية والفلاح الأخروي. { } أي: احترقت { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } أي: ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ. وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم العذاب جزاء وِفاقا، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي: له العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه.

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي: بالله وما أوجب الإيمانَ به { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } من الواجبات والمستحبات { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي: من الأخلاق الرذيلة، والخلْق الذميم، ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }

{ 58 - 59 } { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }

الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به. فأمر الله عباده بأدائها أي: كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله. وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها. قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك.

وفي قوله: { إِلَى أَهْلِهَا } دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن، ووكيلُه بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها.

{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو.

والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به. ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون.

ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما، الواجب والمستحب، واجتناب نهيهما. وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية.

ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى الرسول أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما.

فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها { ذَلِكَ } أي: الرد إلى الله ورسوله { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم.

{ 60 - 63 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا }

يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين. { الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } مؤمنون بما جاء به الرسول وبما قبله، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت.

والحال أنهم { قد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } فكيف يجتمع هذا والإيمان؟ فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمَنْ زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك. وهذا من إضلال الشيطان إياهم، ولهذا قال: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } عن الحق.

{ فَكَيْفَ } يكون حال هؤلاء الضالين { إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟!

{ ثُمَّ جَاءُوكَ } معتذرين لما صدر منهم، ويقولون: { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي: ما قصدنا في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم، وهم كَذَبة في ذلك. فإن الإحسان كل الإحسان تحكيم الله ورسوله { ومَنْ أحْسَن من الله حكمًا لقوْمٍ يوقنون }

ولهذا قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي: من النفاق والقصد السيئ. { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي: لا تبال بهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه. { وَعِظْهُمْ } أي: بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } أي: انصحهم سرا بينك وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود، وبالغ في زجرهم وقمعهم عمَّا كانوا عليه، وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه فإنه ينصح سرًا، ويبالغ في وعظه بما يظن حصول المقصود به.


{ 64 - 65 } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }

يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع.

وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا.

وقوله: { بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره. ففيه إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول.

ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها.

{ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك.

ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن.

فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمَن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين.

{ 66 - 68 } { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }

يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات، لتخف عليه العبادات، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه.

ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي: ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه، ولم يكونوا بصدده، وهذا هو الذي ينبغي للعبد، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة، وحصول الكسل وعدم النشاط.

ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور:

(أحدها) الخيرية في قوله: { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أمروا بها، أي: وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار، لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده.

(الثاني) حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر. فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر.

وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات.

(الثالث) قوله: { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبُدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

(الرابع) الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير.


{ 69 - 70 } { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا }

أي: كل مَنْ أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير وكبير، { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة { مِنَ النَّبِيِّينَ } الذين فضلهم الله بوحيه، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق، ودعوتهم إلى الله تعالى { وَالصِّدِّيقِينَ } وهم: الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم، وبالقيام به قولا وعملا وحالا ودعوة إلى الله، { وَالشُّهَدَاءِ } الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فقتلوا، { وَالصَّالِحِينَ } الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم، فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء في صحبتهم { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } بالاجتماع بهم في جنات النعيم والأُنْس بقربهم في جوار رب العالمين.

{ ذَلِكَ الْفَضْلُ } الذي نالوه { مِنَ اللَّهِ } فهو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه، وأعطاهم من الثواب ما لا تبلغه أعمالهم.

{ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } يعلم أحوال عباده ومن يستحق منهم الثواب الجزيل، بما قام به من الأعمال الصالحة التي تواطأ عليها القلب والجوارح.


{ 71 - 74 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }

يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين. وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم، والنفير في سبيل الله.

ولهذا قال: { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي: متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش، ويقيم غيرهم { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية، والراحة للمسلمين في دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }

ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: { وَإِنَّ مِنْكُمْ } أي: أيها المؤمنون { لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح.

وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أَولى لوجهين:

أحدهما: قوله { مِنْكُمْ } والخطاب للمؤمنين.

والثاني: قوله في آخر الآية: { كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة. وأيضا فإن هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين:

صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد.

وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد.

كما قال تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى آخر الآيات. ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال: { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي: هزيمة وقتل، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم. { قَالَ } ذلك المتخلف { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة. ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة، التي بها يقوى الإيمان، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب.

وأما القعود فإنه وإن استراح قليلاً، فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة، ويفوته ما يحصل للمجاهدين.

ثم قال: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ } أي: نصر وغنيمة { لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } أي: يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم، ليس له رغبة ولا قصد في غير ذلك، كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ولا بينكم وبينه المودة الإيمانية التي من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم، يفرحون بحصولها ولو على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به دينهم ودنياهم، فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط، ليست معه الروح الإيمانية المذكورة.

ومن لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته، ولا يغلق عنهم أبوابها. بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه، فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها.

وقيل: إن معناه: فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان، الصادقون في إيمانهم { الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } أي: يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها.

فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء، لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك.

وأما أولئك المتثاقلون، فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا، فيكون هذا نظير قوله تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى آخر الآيات. وقوله: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } وقيل: إن معنى الآية: فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، فيكون على هذا الوجه "الذين" في محل نصب على المفعولية.

{ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله. { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } زيادة في إيمانه ودينه، وغنيمة، وثناء حسنا، وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

{ 75 } { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا }

هذا حث من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه، فقال: { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ومع هذا فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم، فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك، وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله، ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة.

ويدعون الله أن يجعل لهم وليًّا ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها، فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة، بحيث يكون من باب دفع الأعداء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:49 pm

4- تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ( آية 76-100 )
وهي مدنية

{ 76 } ثم قال: { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }

هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة فوائد:

منها: أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله، وإخلاصه ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه، كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته.

ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره، فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل، فأهل الحق أولى بذلك، كما قال تعالى في هذا المعنى: { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } الآية.

ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق، وهو الحق، والتوكل على الله. فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل، الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }

والكيد: سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.

{ 77 ، 78 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }



كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد:

منها: أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل.

ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم.

وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا: { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا: { لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي: هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر. ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي: التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها، في ذاتها، ولذاتها وزمانها، فذاتها -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- "أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" . ولذاتها صافية عن المكدرات، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وقال الله على لسان نبيه: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" .

وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه.

وأما زمانها، فإن الدنيا منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه، ولهذا قال: { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الشرك، وسائر المحرمات. { وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } أي: فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملاً موفرًا غير منقوص منه شيئًا.

ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا، فقال: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } أي: في أي زمان وأي مكان. { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي: قصور منيعة ومنازل رفيعة، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها.

{ 78 - 80 } ثم قال: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا }



يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي: خصب وكثرة أموال، وتوفر أولاد وصحة، قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وأنهم إن أصابتهم سيئة أي: جدب وفقر، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }

وقال قوم صالح: { قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }

وقال قوم ياسين لرسلهم: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم. وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم.

قال الله في جوابهم: { قُلْ كُلٌّ } أي: من الحسنة والسيئة والخير والشر. { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي: بقضائه وقدره وخلقه. { فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم } أي: الصادر منهم تلك المقالة الباطلة. { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أي: لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم.

وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه. فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك.

وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين.

ثم قال تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي: في الدين والدنيا { فَمِنَ اللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها. { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر.

فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره.

ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة، فهي أكبر شهادة على الإطلاق، كما قال تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم، تام القدرة عظيم الحكمة، وقد أيد الله رسوله بما أيده، ونصره نصرا عظيما، تيقن بذلك أنه رسول الله، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين، ثم لقطع منه الوتين.

{ 80 - 81 } { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

أي: كل مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه { فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } تعالى لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله، وفي هذا عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله أمر بطاعته مطلقا، فلولا أنه معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا، ويمدح على ذلك. وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلاثة:

حق لله تعالى لا يكون لأحد من الخلق، وهو عبادة الله والرغبة إليه، وتوابع ذلك.

وقسم مختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير والنصرة.

وقسم مشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما، كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله: { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله { وَمَنْ تَوَلَّى } عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي: تحفظ أعمالهم وأحوالهم، بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا، وقد أديت وظيفتك، ووجب أجرك على الله، سواء اهتدوا أم لم يهتدوا. كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } الآية.

ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب. فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة، وقد أشبه من قال الله فيهم: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي: يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك. { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي: خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم. { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي: بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية.

وفي قوله: { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي: يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء، ففيه وعيد لهم.

ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف، فإنهم لا يضرونه شيئا إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه، وإقامة شرعه. ولهذا قال: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }


{ 82 } { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }

يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب.

وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وقال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }

ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً.


{ 83 } { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }

هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي: والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟

ثم قال تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، { لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم.


{ 84 } { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا }

هذه الحالة أفضل أحوال العبد، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله من الجهاد وغيره، ويحرض غيره عليه، وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما فلهذا قال لرسوله: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } أي: ليس لك قدرة على غير نفسك، فلن تكلف بفعل غيرك. { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } على القتال، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين وقوة قلوبهم، من تقويتهم والإخبار بضعف الأعداء وفشلهم، وبما أُعد للمقاتلين من الثواب، وما على المتخلفين من العقاب، فهذا وأمثاله كله يدخل في التحريض على القتال.

{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: بقتالكم في سبيل الله، وتحريض بعضكم بعضًا. { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا } أي: قوة وعزة { وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } بالمذنب في نفسه، وتنكيلا لغيره، فلو شاء تعالى لانتصر من الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية.

ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد، ويحصل الإيمان النافع، إيمان الاختيار، لا إيمان الاضطرار والقهر الذي لا يفيد شيئا.

{ 85 } { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا }

المراد بالشفاعة هنا: المعاونة على أمر من الأمور، فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم- كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان، وقرر ذلك بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } أي: شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كُلًّا ما يستحقه.

{ 86 } { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }

التحية هي: اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها.

وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع، من السلام ابتداء وردًّا. فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة، أو مثلها في ذلك. ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها.

ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين أحدهما:

أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا.

الثاني: ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن، كما هو الأصل في ذلك.

ويستثنى من عموم الآية الكريمة من حيَّا بحال غير مأمور بها، كـ "على مشتغل بقراءة، أو استماع خطبة، أو مصلٍ ونحو ذلك" فإنه لا يطلب إجابة تحيته، وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع بهجره وعدم تحيته، وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر، فإنه يهجر ولا يُحيّا، ولا تُرد تحيته، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى.

ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا، فإنه مأمور بردّها وبأحسن منها، ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } فيحفظ على العباد أعمالهم، حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود.

{ 87 } { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا }

يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو، لكماله في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير، والنعم الظاهرة والباطنة.

وذلك يستلزم الأمر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية. لكونه المستحق لذلك وحده والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه منها، ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة، فقال: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } أي: أولكم وآخِركم في مقام واحد.

في { يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ } أي: لا شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، بالدليل العقلي والدليل السمعي، فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها، ومن وجود النشأة الأولى التي وقوع الثانية أَوْلى منها بالإمكان، ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبثًا، يحيون ثم يموتون. وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك، بل إقسامه عليه ولهذا قال: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } كذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

وفي قوله: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } إخبار بأن حديثه وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق، بل أعلاها. فكل ما قيل في العقائد [والعلوم] والأعمال مما يناقض ما أخبر الله به، فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقًّا.

{ 88 - 91 } { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا }

المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم. فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة.

ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان.

وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.

ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق:

فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [على] ذلك، إحداهما من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال.

والفرقة الثانية قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا ترك قتال الفريقين، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك في قوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام:

إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم، وهذا متعذر من هؤلاء، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم، فاقبلوا العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك.

فـهؤلاء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا }

الفرقة الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم، وهم الذين قال الله فيهم: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي: من هؤلاء المنافقين. { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي: خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي: لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم، وازداد كفرهم ونفاقهم، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية، وفي الحقيقة مخالفة لها.

فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين، فإنهم مستعدون لانتهازها، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم، فإنهم يقاتلون، ولهذا قال: { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي: المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي: حجة بينة واضحة، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة، فلا يلوموا إلا أنفسهم.

{ 92 } { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }

هذه الصيغة من صيغ الامتناع، أي: يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن، أي: متعمدا، وفي هذا الإخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة، وإنما يصدر ذلك إما من كافر، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى، وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"

فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله. ولما كان قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما لجميع الأحوال، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال: { إِلَّا خَطَأً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عبدًا، صغيرًا أو كبيرًا، عاقلاً أو مجنونًا، مسلمًا أو كافرًا، كما يفيده لفظ "مَنْ" الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان بـ "مَنْ" في هذا الموضع، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول: فإن قتله، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله "مَنْ"

وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، كما يفيده التنكير في سياق الشرط، فإن على القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لذلك، تكون في ماله، ويشمل ذلك الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والصحيح والمعيب، في قول بعض العلماء.

ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق، وملكه منافع نفسه، فإذا كان يضيع بعتقه، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه، مع أن في قوله: { تحرير رقبة } ما يدل على ذلك؛ فإن التحرير: تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير. فتأمل ذلك فإنه واضح.

وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد. { مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم، والمراد بأهله هنا هم ورثته، فإن الورثة يرثون ما ترك، الميت، فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه.

وقوله: { إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي: يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية، فإنها تسقط، وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة، والصدقة مطلوبة في كل وقت. { فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } أي: من كفار حربيين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي: وليس عليكم لأهله دية، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم.

{ وَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق.

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الرقبة ولا ثمنها، بأن كان معسرا بذلك، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي: لا يفطر بينهما من غير عذر، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع، كالمرض والحيض ونحوهما. وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم.

{ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } أي: هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ.

{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: كامل العلم كامل الحكمة، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، في أي وقت كان وأي محل كان.

ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء، بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة، وأخرجها من الوجود إلى العدم، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله.

ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة. بخلاف الظهار، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك.

ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ، بإجماع العلماء، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم] ويخف عنهم بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين.

ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل.


{ 93 } { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }

تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر العملي، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول.

فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.

وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان الجنة.

وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين. والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين بن القيم رحمه الله في "المدارج" فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال: وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه.

وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين.

ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها.

قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما. وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما.

فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة، وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.

ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه. ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي عين.

ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره.

وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات، كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه، وهذا من أحب الخلق إلى الله. انتهى كلامه قدس الله روحه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.


{ 94 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }

يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟

فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمـَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم، وكان معه غنيمة له أو مال غيره، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم، وكان هذا خطأ في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي: فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي، فما عند الله خير وأبقى.

وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها.

ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى، قبل هدايتهم إلى الإسلام: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم. فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال: { فَتَبَيَّنُوا }

فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب.

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم.

{ 95 - 96 } { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

أي: لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله، ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر.

وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [وجود] المانع، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر.

ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل.

ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة، أي: الرفعة، وهذا تفضيل على وجه الإجمال، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير، واندفاع كل شر.

والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في "الصحيحين" أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله.

وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد، نظير الذي في سورة الصف في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } إلى آخر السورة.

وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات.

وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح، أو النزول من حالة إلى ما دونها، عند القدح والذم - أحسن لفظا وأوقع في النفس.

وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء، وكل منهما له فضل، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }

وكما [قال تعالى] في الآيات المذكورة في الصف في قوله: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وكما في قوله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي: ممن لم يكن كذلك.

ثم قال: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما قال تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة.

وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال. كما إذا قيل: النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك: وكل منهما كافر.

والقتل أشنع من الزنا، وكل منهما معصية كبيرة، حرمها الله ورسوله وزجر عنها.

ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين { الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ختم هذا الآية بهما فقال: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

{ 97 - 99 } { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }

هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت جدة
مرآقبْ
مرآقبْ
بنت جدة


[ مساهماتـي .. ] : 2060
[ تقيمـاتي .. ] : 16
[ تاريخ إنضمامي .. ] : 30/12/2010
[ عمـري .. ] : 35
[ موقعي .. ] : جدة

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Emptyالسبت مارس 19, 2011 6:50 pm

4- تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ( آية 101-125 )
وهي مدنية

{ 101 - 102 } { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا *وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }

هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر، وصلاة الخوف، يقول تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: في السفر، وظاهر الآية [أنه] يقتضي الترخص في أي سفر كان ولو كان سفر معصية، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وخالف في ذلك الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم، فلم يجوزوا الترخص في سفر المعصية، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف.

وقوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية.

وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه.

ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران:

أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره.

والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته.

وقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان:

إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: { مِنَ الصَّلَاةِ } ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

الثانية: أن { من } تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين.

فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف.

ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا } قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول.

وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" أو كما قال.

فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد.

وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة.

وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة.

ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } أي: صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله.

ثم فسَّر ذلك بقوله: { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } أي: وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما يأتي: { فَإِذَا سَجَدُوا } أي: الذين معك أي: أكملوا صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود، وأنه ركن من أركانها، بل هو أعظم أركانها.

{ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا } وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى منتظرا للطائفة الثانية، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف.

فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة، وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين:

أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى.

والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها.

وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد. ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم، وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد، والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم، ولهذا قال تعالى: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً }

ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلاحه، ولكن مع أخذ الحذر فقال: { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }

ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم، ويأخذوهم ويحصروهم، ويقعدوا لهم كل مرصد، ويحذروهم في جميع الأحوال، ولا يغفلوا عنهم، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم.

فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات.

وفي قوله: { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل السلام، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه، فأخبر عن مصاحبتهم له. ثم أضاف الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول، فدل ذلك على ما ذكرناه.

وفي قوله: { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى، وحكما في ركعتهم الأخيرة، فيستلزم ذلك انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم، وهذا ظاهر للمتأمل.


{ 103 } { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا }

أي: فإذا فرغتم من صلاتكم، صلاة الخوف وغيرها، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد. منها: أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه.

وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه.

ومنها: أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة. ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها.

ومنها: أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب.

ومنها: أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فأمر بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم.

وقوله: { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاة } أي: إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا، بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها.

{ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أي: مفروضا في وقته، فدل ذلك على فرضيتها، وأن لها وقتا لا تصح إلا به، وهو هذه الأوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ودل قوله: { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } على أن الصلاة ميزان الإيمان وعلى حسب إيمان العبد تكون صلاته وتتم وتكمل، ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة - أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة، ولا يؤمرون بها، بل ولا تصح منهم ما داموا على كفرهم، وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الأحكام في الآخرة.


{ 104 } { وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }

أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار، أي: في جهادهم والمرابطة على ذلك، فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء. بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم.

ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين:

الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى.

الأمر الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه، بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من نصر دين الله، وإقامة شرعه، واتساع دائرة الإسلام، وهداية الضالين، وقمع أعداء الدين، فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي إن ناله، ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته، فسبحان من فاوت بين العباد وفرق بينهم بعلمه وحكمته، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } كامل العلم كامل الحكمة

{ 105 - 113 } { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }

يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي: محفوظًا في إنزاله من الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملا أيضا على الحق، فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عدل { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس.

وفي الآية الأخرى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }. فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام.

وقوله: { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } أي: لا بهواك بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها، وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل لقوله: { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال: { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } أي: لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكرٍ حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية.

ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم.

{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } مما صدر منك إن صدر.

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي: يغفر الذنب العظيم لمن استغفره، وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه.

{ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } "الاختيان" و "الخيانة" بمعنى الجناية والظلم والإثم، وهذا يشمل النهي عن المجادلة، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير، فإنه لا يجادل عنه بدفع ما صدر منه من الخيانة، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية. { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } أي: كثير الخيانة والإثم، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البُغْض، وهذا كالتعليل، للنهي المتقدم.

ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم.

وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة الجاني، ورمي البريء بالجناية، والسعي في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ليفعل ما بيتوه.

فقد جمعوا بين عدة جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } أي: قد أحاط بذلك علما، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة.

{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } أي: هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق، فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ }

فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟ وفي هذه الآية إرشاد إلى المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه، وبين ما يفوت من ثواب الآخرة أو يحصل من عقوباتها.

فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟

وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها: هبك فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات، وفوات الثواب وحصول العقاب - ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها. وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه، وهو خاصة العقل الحقيقي. بخلاف الذي يدعي العقل، وليس كذلك، فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة، ولو ترتب عليها ما ترتب. والله المستعان.

ثم قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود. فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.

فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه.

واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة، وسمي "سوءًا" لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن.

وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس "ظلما" لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل، بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملاً، فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل، الذي ضده الجور والظلم.

ثم قال: { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير، فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه، لا تتعداها إلى غيرها، كما قال تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها، فلا تخرج أيضا عن حكم هذه الآية الكريمة، لأن من ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة.

وفي هذا بيان عدل الله وحكمته، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: له العلم الكامل والحكمة التامة.

ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه، والسبب الداعي لفعله، والعقوبة المترتبة على فعله، ويعلم حالة المذنب، أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته، أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة.

وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه، وتهاونا بعقابه، فإن هذا بعيد من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة.

ثم قال: { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً } أي: ذنبا كبيرا { أَوْ إِثْمًا } ما دون ذلك. { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } أي يتهم بذنبه { بَرِيئًا } من ذلك الذنب، وإن كان مذنبا. { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } أي: فقد حمل فوق ظهره بهتا للبريء وإثمًا ظاهرًا بينًا، وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها، فإنه قد جمع عدة مفاسد: كسب الخطيئة والإثم، ثم رَمْي مَن لم يفعلها بفعلها، ثم الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء، ثم ما يترتب على ذلك من العقوبة الدنيوية، تندفع عمن وجبت عليه، وتقام على من لا يستحقها.

ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلام الناس في البريء إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر.

ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ } وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها: أن أهل بيت سرقوا في المدينة، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة، وأخذوا سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك.

واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس، وقالوا: إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء. فهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم، فأنزل الله هذه الآيات تذكيرا وتبيينا لتلك الواقعة وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم من المخاصمة عن الخائنين، فإن المخاصمة عن المبطل من الضلال، فإن الضلال نوعان:

ضلال في العلم، وهو الجهل بالحق. وضلال في العمل، وهو العمل بغير ما يجب. فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلال [كما حفظه عن الضلال في الأعمال]

وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم، كحالة كل ماكر، فقال: { وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم فيه مقصودهم، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان والإثم والخسران. وهذه نعمة كبيرة على رسوله صلى الله عليه وسلم تتضمن النعمة بالعمل، وهو التوفيق لفعل ما يجب، والعصمة له عن كل محرم.

ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الأولين والآخِرين.

والحكمة: إما السُّنَّة التي قد قال فيها بعض السلف: إن السُّنَّة تنزل عليه كما ينزل القرآن.

وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها وترتيب كل شيء بحسبه.

{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى. فإنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله قبل النبوة بقوله: { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى }

ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين، فكان أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها، ولهذا قال: { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق

وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها

{ 114 ْ} { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ}

أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه.

ثم استثنى تعالى فقال: { إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ} من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة" الحديث.

{ أَوْ مَعْرُوفٍ ْ} وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي.

{ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ} والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ} وقال تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ} الآية.

وقال تعالى: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ} والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.

كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ}. فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء.

ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ} فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل.
{ 115 ، 116 ْ} { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ}

أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ْ} بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية.

{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ْ} وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ْ} أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلاً أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله.

كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ} وقال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ}

ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس، وغلبات الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه بحفظه ويعصمه من السوء، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ْ} أي: بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء، وكذلك كل مخلص، كما يدل عليه عموم التعليل.

وقوله: { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ْ} أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. { وَسَاءَتْ مَصِيرًا ْ} أي: مرجعا له ومآلا.

وهذا الوعيد المرتب على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان. ومنه ما هو دون ذلك، فلعل الآية الثانية كالتفصيل لهذا المطلق.

وهو: أن الشرك لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات.

فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء بل ليس له إلا العدم. عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى، والفقر من جميع الوجوه.

وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفره برحمته وحكمته، وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ.

ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و { سبيل المؤمنين ْ} مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته - فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ْ}

ووجه الدلالة منها: أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا ولا شيء بعد المعروف غير المنكر، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فلا يكون إلا منكرا، ومثل ذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس ْ} فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطا أي: عدلا خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي: في كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم ولا عالمين بها.

ومثل ذلك قوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ْ} يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة فلا يكون مخالفا.

فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، ولهذا بيَّن الله قبح ضلال المشركين بقوله:


{ 117 - 121 ْ} { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ْ}

أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا، أي: أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة، فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال، والمجد والجلال، والعز والجمال، والرحمة والبر والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟" هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور، أو يصفه واصف؟"

ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله، لعنه الله وأبعده عن رحمته، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله. { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ْ} ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما: { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ْ} أي: مقدرا. علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على من تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه.

وأقسم في موضع آخر ليغوينهم { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ْ} فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ}

وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم ذكر ما يريد بهم وما يقصده لهم بقوله: { وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ْ} أي: عن الصراط المستقيم ضلالا في العلم، وضلالا في العمل.

{ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ْ} أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون. وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال. وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة، واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم، { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ} { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ْ} { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ْ} الآية.

وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين: { أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ْ}

وقوله: { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ ْ} أي: بتقطيع آذانها، وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه، وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال. { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ْ} وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن.

وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره، ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة، فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.

فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته. فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة. لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة، ولهذا قال: { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ْ} وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!! فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي.

كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين، فلا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، اللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت.

ثم قال: { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ْ} أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ْ} فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، كما قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ْ} الآية. ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له، ولهذا قال: { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ْ} أي: من انقاد للشيطان وأعرض عن ربه، وصار من أتباع إبليس وحزبه، مستقرهم النار. { وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ْ} أي: مخلصا ولا ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الآباد.

{ 122 ْ} ولما بين مآل الأشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ْ}



أي: { آمَنُوا ْ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا. { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ} الناشئة عن الإيمان؟

وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح. كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه، وتكميله للإيمان والعمل الصالح.

ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل، وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته، وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله.

ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ْ} فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والأزواج الحسنة، والقصور، والغرف المزخرفة، والأشجار المتدلية، والفواكه المستغربة، والأصوات الشجية، والنعم السابغة، وتزاور الإخوان، وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان، وأعلى من ذلك كله وأجلّ رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه، والعيون برؤيته، والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والحبور، فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم، وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون، وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات، ولهذا قال: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ْ}

فصدق الله العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى ما يكون، ولهذا لما كان كلامه صدقا وخبره حقا، كان ما يدل عليه مطابقةً وتضمنًا وملازمةً كل ذلك مراد من كلامه، وكذلك كلام رسوله صلى الله عليه وسلم لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه.


{ 123 ، 124 ْ} { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ}

أي: { لَيْسَ ْ} الأمر والنجاة والتزكية { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ْ} والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية؟!

فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا: { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ} وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى.

وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ} وهذا شامل لجميع العاملين، لأن السوء شامل لأي ذنب كان

من صغائر الذنوب وكبائرها، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير، دنيوي أو أخروي.

والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله، فمستقل ومستكثر، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا. فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم.

ومن كان عمله صالحا، وهو مستقيم في غالب أحواله، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و [بعض]

الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب، وهي مما يجزى به على عمله، قيضها الله لطفا بعباده، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة.

وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما دلت على ذلك النصوص.

وقوله: { وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ} لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك، فليس له ولي يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه.

{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ْ} دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية والبدنية، ودخل أيضا كل عامل من إنس أو جن، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى. ولهذا قال: { مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير القران الكريم كاملا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 10انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3, 4, 5, 6, 7, 8, 9, 10  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» شاركونا في ختمه القران الكريم
»  فضل القران
» 00فائدة القران في القبر 00000
»  هل تعلم ماذل يفعل القران للانسان عند الموت
» اداب تلاوة القرآن الكريم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: |[ آستديو مشآعل ]| :: منتدى القرآن الكريـم-
انتقل الى: